للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ لَيْسَ نَفْسَ الْقِيَامِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَزِمَ تَأْخِيرُ الْوُضُوءِ عَنِ الصَّلَاةِ، وَأَنَّهُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ. الثَّانِي: أَنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْأَعْضَاءَ قَبْلَ الصَّلَاةِ قَاعِدًا أَوْ مُضْطَجِعًا لَكَانَ قَدْ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ: إِذَا شَمَّرْتُمْ لِلْقِيَامِ إِلَى الصَّلَاةِ وَأَرَدْتُمْ ذَلِكَ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَجَازًا إِلَّا أَنَّهُ مَشْهُورٌ مُتَعَارَفٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِرَادَةَ الْجَازِمَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْفِعْلِ، وَإِطْلَاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ مَجَازٌ مَشْهُورٌ. الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النِّسَاءِ: ٣٤] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْقِيَامَ الَّذِي هُوَ الِانْتِصَابُ، يُقَالُ: فُلَانٌ قَائِمٌ بِذَلِكَ الْأَمْرِ، قَالَ تَعَالَى: قائِماً بِالْقِسْطِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٨] وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَتَّةَ الِانْتِصَابَ، بَلِ الْمُرَادُ كَوْنُهُ مُرِيدًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ مُتَهَيِّئًا لَهُ مُسْتَعِدًّا لِإِدْخَالِهِ فِي الْوُجُودِ، فكذا هاهنا قَوْلُهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ مَعْنَاهُ إِذَا أَرَدْتُمْ أَدَاءَ الصَّلَاةِ وَالِاشْتِغَالَ بِإِقَامَتِهَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ قَوْمٌ: الْأَمْرُ بِالْوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ تَكْلِيفًا مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ قَوْلَهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا جُمْلَةٌ شَرْطِيَّةٌ، الشَّرْطُ فِيهَا الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، وَالْجَزَاءُ الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الشَّيْءِ بِحَرْفِ الشَّرْطِ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ تَبَعٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ.

وَقَالَ آخَرُونَ: المقصود من الوضوء الطهارة، والطاهرة مَقْصُودَةٌ بِذَاتِهَا بِدَلِيلِ الْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَأَمَّا الْحَدِيثُ

فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «بُنِيَ الدِّينُ عَلَى النَّظَافَةِ»

وَقَالَ: «أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ/ الْوُضُوءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

وَلِأَنَّ الْأَخْبَارَ الْكَثِيرَةَ وَارِدَةٌ فِي كَوْنِ الْوُضُوءِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ دَاوُدُ: يَجِبُ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: لَا يَجِبُ. احْتَجَّ دَاوُدُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ

إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ قِيَامًا وَاحِدًا وَصَلَاةً وَاحِدَةً، فَيَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْخُصُوصَ، أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْعُمُومَ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَصِيرُ الْآيَةُ مُجْمَلَةً لِأَنَّ تَعْيِينَ تِلْكَ الْمَرَّةِ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْآيَةِ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الْإِجْمَالِ إِخْرَاجٌ لَهَا عَنِ الْفَائِدَةِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَصِحُّ إِدْخَالُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَيْهِ، وَمِنْ شَأْنِهِ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعُمُومَ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْوُضُوءِ غَيْرُ مَقْصُورٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَإِذَا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى الْعُمُومِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ، إِذْ لَوْ لَمْ تُحْمَلْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى هَذَا الْمَحْمَلِ لَزِمَ احْتِيَاجُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى مَا هُوَ مُرَادُ اللَّه تَعَالَى إِلَى سَائِرِ الدَّلَائِلِ، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْآيَةُ وَحْدَهَا مُجْمَلَةً، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ خِلَافُ الْأَصْلِ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّا نَسْتَفِيدُ هَذَا الْعُمُومَ مِنْ إِيمَاءِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الصَّلَاةَ اشْتِغَالٌ بِخِدْمَةِ الْمَعْبُودِ، وَالِاشْتِغَالُ بِالْخِدْمَةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَمِنْ وُجُوهِ التَّعْظِيمِ كَوْنُهُ آتِيًا بِالْخِدْمَةِ حَالَ كَوْنِهِ فِي غَايَةِ النَّظَافَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَجْدِيدَ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ مُبَالَغَةٌ فِي النَّظَافَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذِكْرَ الْحُكْمِ عَقِيبَ الْوَصْفِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ ذَلِكَ الْحُكْمِ مُعَلَّلًا بِذَلِكَ الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي عُمُومَ الْحُكْمِ لِعُمُومِهِ، فَيَلْزَمُ وُجُوبُ الْوُضُوءِ عِنْدَ كُلِّ قِيَامٍ إِلَى الصَّلَاةِ. ثُمَّ قَالَ دَاوُدُ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ وَرَدَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>