للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: مَسَخْنَاهُمْ حَتَّى صَارُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ضَرَبْنَا الْجِزْيَةَ عَلَيْهِمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (قَسِيَّةً) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ بغير ألف على وزن فعيلة، وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَالتَّخْفِيفِ، وَفِي قَوْلِهِ (قَسِيَّةً) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْقَسِيَّةُ بِمَعْنَى الْقَاسِيَةِ/ إِلَّا أَنَّ الْقَسِيَّ أَبْلَغُ مِنَ الْقَاسِي، كَمَا يُقَالُ: قَادِرٌ وَقَدِيرٌ، وَعَالِمٌ وَعَلِيمٌ، وَشَاهِدٌ وَشَهِيدٌ، فَكَمَا أَنَّ الْقَدِيرَ أَبْلَغُ مِنَ الْقَادِرِ فَكَذَلِكَ الْقِسِيُّ أبلغ من القاسي، والثاني: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: دِرْهَمٌ قَسِيٌّ عَلَى وَزْنِ شَقِيٍّ، أَيْ فَاسِدٌ رَدِيءٌ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ أَيْضًا مِنَ الْقَسْوَةِ لِأَنَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ الْخَالِصَيْنِ فِيهِمَا لِينٌ، وَالْمَغْشُوشَ فِيهِ يُبْسٌ وَصَلَابَةٌ، وَقُرِئَ (قِسِيَّةً) بِكَسْرِ الْقَافِ لِلْإِتْبَاعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أَيْ جَعَلْنَاهَا نَائِيَةً عَنْ قَبُولِ الْحَقِّ مُنْصَرِفَةً عَنِ الِانْقِيَادِ لِلدَّلَائِلِ. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أَيْ أَخْبَرْنَا عَنْهَا بِأَنَّهَا صَارَتْ قَاسِيَةً كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ جَعَلَ فُلَانًا فَاسِقًا وَعَدْلًا.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ بَعْضَ مَا هُوَ مِنْ نَتَائِجِ تِلْكَ الْقَسْوَةِ فَقَالَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَهَذَا التَّحْرِيفُ يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ الْبَاطِلَ، وَيَحْتَمِلُ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْأَوَّلَ أَوْلَى لِأَنَّ الْكِتَابَ الْمَنْقُولَ بِالتَّوَاتُرِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ تَغْيِيرُ اللَّفْظِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكُوا نَصِيبًا مِمَّا أُمِرُوا بِهِ فِي كِتَابِهِمْ وَهُوَ الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وَفِي الْخَائِنَةِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْخَائِنَةَ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ، كَالْكَافِيَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَقَالَ تَعَالَى: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الْحَاقَّةِ: ٥] أَيْ بِالطُّغْيَانِ. وَقَالَ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَةِ: ٢] أَيْ كَذِبٌ. وَقَالَ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الْغَاشِيَةِ: ١١] أَيْ لَغْوًا. وَتَقُولُ الْعَرَبُ: سَمِعْتُ رَاغِيَةَ الْإِبِلِ. وَثَاغِيَةَ الشَّاءِ يَعْنُونَ رُغَاءَهَا وَثُغَاءَهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَيُقَالُ عَافَاهُ اللَّه عَافِيَةً، وَالثَّانِي: أَنْ يُقَالَ: الْخَائِنَةُ صِفَةٌ، وَالْمَعْنَى: تَطَّلِعُ عَلَى فِرْقَةٍ خَائِنَةٍ أَوْ نَفْسٍ خَائِنَةٍ أَوْ عَلَى فِعْلَةٍ ذَاتِ خِيَانَةٍ. وَقِيلَ:

أَرَادَ الْخَائِنَ، وَالْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَقُرِئَ عَلَى خِيَانَةٍ مِنْهُمْ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا كَعَبْدِ اللَّه بْنِ سَلَامٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَلِيلُ من الذين بقوا على الكفر لكنهم بَقُوا عَلَى الْعَهْدِ وَلَمْ يَخُونُوا فِيهِ.

ثُمَّ قَالَ: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ/ عَفْوٌ وَصَفْحٌ عَنِ الْكُفَّارِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَفِي الْآيَةِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَعْنَى فَاعْفُ عَنْ مُذْنِبِهِمْ وَلَا تُؤَاخِذْهُمْ بِمَا سَلَفَ مِنْهُمْ، وَالثَّانِي: أَنَّا إِذَا حَمَلْنَا الْقَلِيلَ على الْكُفَّارِ مِنْهُمُ الَّذِينَ بَقُوا عَلَى الْكُفْرِ فَسَّرْنَا هَذِهِ الْآيَةَ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا أَمْرُ اللَّه رَسُولِهِ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ عَنْ صَغَائِرِ زَلَّاتِهِمْ مَا دَامُوا بَاقِينَ عَلَى الْعَهْدِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>