للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: إِرَادَتُهُمُ الْخُرُوجَ تَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ قَصَدُوا ذَلِكَ وَطَلَبُوا الْمَخْرَجَ مِنْهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [السَّجْدَةِ: ٢] .

قِيلَ: إِذَا رَفَعَهُمْ لَهَبُ النَّارِ إِلَى فَوْقُ فَهُنَاكَ يَتَمَنَّوْنَ الْخُرُوجَ. وَقِيلَ: يَكَادُونَ يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ لِقُوَّةِ النَّارِ وَدَفْعِهَا لِلْمُعَذَّبِينَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ تَمَنَّوْا ذَلِكَ وَأَرَادُوهُ بِقُلُوبِهِمْ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي مَوْضِعٍ آخَرَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٧] وَيُؤَكِّدُ هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بِضَمِّ الْيَاءِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه» عَلَى سَبِيلِ الْإِخْلَاصِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ تَهْدِيدَاتِ الْكُفَّارِ، وَأَنْوَاعِ مَا خَوَّفَهُمْ بِهِ مِنَ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ، وَلَوْلَا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصٌّ بِالْكُفَّارِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ الْكُفَّارِ بِهِ مَعْنًى واللَّه أَعْلَمُ. وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ قَوْلُهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ وَهَذَا يُفِيدُ الْحَصْرَ، فَكَانَ الْمَعْنَى وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ لَا لِغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة: ٣] أي لكم لا لغيركم، فكذا هاهنا.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٣٨]]

وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٣٨)

فِي اتِّصَالِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَوْجَبَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ قَطْعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ عِنْدَ أَخْذِ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ الْمُحَارَبَةِ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ أَخْذَ الْمَالِ عَلَى سَبِيلِ السَّرِقَةِ يُوجِبُ قَطْعَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ أَيْضًا، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ تَعْظِيمَ أَمْرِ الْقَتْلِ حَيْثُ قَالَ: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [الْمَائِدَةِ: ٣٢] ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا الْجِنَايَاتِ الَّتِي تُبِيحُ الْقَتْلَ وَالْإِيلَامَ، فَذَكَرَ أَوَّلًا: قَطْعَ الطَّرِيقِ، وَثَانِيًا: أَمْرَ السَّرِقَةِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اخْتَلَفَ النَّحْوِيُّونَ فِي الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ عَلَى وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ: أَنَّ قَوْلَهُ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ مَرْفُوعَانِ بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُمُ السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ، أَيْ حُكْمُهُمَا كَذَا، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما [النور: ٢] وفي قوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاءِ: ١٦] وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ بِالنَّصْبِ، وَمِثْلُهُ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ النَّصْبُ فِي هَذَا. قَالَ لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ: زَيْدًا فَاضْرِبْهُ أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِكَ: زَيْدٌ فَاضْرِبْهُ، وَأَيْضًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاقْطَعُوا خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ، لِأَنَّ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْفَاءُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ: أَنَّ الرَّفْعَ أَوْلَى مِنَ النَّصْبِ، لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ يَقُومَانِ مَقَامَ «الَّذِي» فَصَارَ التَّقْدِيرُ: الَّذِي سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ حَسُنَ إِدْخَالُ حَرْفِ الْفَاءِ عَلَى الْخَبَرِ لِأَنَّهُ صَارَ جَزَاءً، وَأَيْضًا النَّصْبُ إِنَّمَا يَحْسُنُ إِذَا أَرَدْتَ سَارِقًا بِعَيْنِهِ أَوْ سَارِقَةً بِعَيْنِهَا، فَأَمَّا إِذَا أَرَدْتَ تَوْجِيهَ هَذَا الْجَزَاءِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَتَى بهذا الفعل فالرفع أولى، وهذا القول هو الذي اخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>