للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» قُرِئَ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ بِفَتْحِ الْمِيمِ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ عَلَيْهِ مِنْ عِنْدِ اللَّه تَعَالَى بِأَنْ يَصُونَهُ عَنِ التَّحْرِيفِ وَالتَّبْدِيلِ لِمَا قَرَّرْنَا مِنَ الْآيَاتِ، وَلِقَوْلِهِ لَا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فُصِّلَتْ: ٤٢] وَالْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ هُوَ اللَّه تَعَالَى.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يَعْنِي فَاحْكُمْ بَيْنَ الْيَهُودِ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللَّه تَعَالَى عَلَيْكَ.

وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: وَلا تَتَّبِعْ يُرِيدُ وَلَا تَنْحَرِفْ، وَلِذَلِكَ عَدَّاهُ بِعَنْ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَنْحَرِفْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ مُتَّبِعًا أَهْوَاءَهُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:

رُوِيَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْيَهُودِ قَالُوا: تَعَالَوْا نَذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ، ثُمَّ دَخَلُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ قَدْ عَرَفْتَ أَنَّا أَحْبَارُ الْيَهُودِ وَأَشْرَافُهُمْ، وَإِنَّا إِنِ اتَّبَعْنَاكَ اتَّبَعَكَ كُلُّ الْيَهُودِ، وَإِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خُصُومِنَا حُكُومَةً فَنُحَاكِمُهُمْ إِلَيْكَ، فَاقْضِ لَنَا وَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَمَسَّكَ مَنْ طَعَنَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالَ: لَوْلَا جَوَازُ الْمَعْصِيَةِ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا لَمَا قَالَ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ مَقْدُورٌ لَهُ وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ لِمَكَانِ النَّهْيِ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَفْظُ (الشِّرْعَةِ) فِي اشْتِقَاقِهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَى شَرَعَ بَيَّنَ وَأَوْضَحَ. قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ:

لَفْظُ الشَّرْعِ مَصْدَرُ: شَرَعْتُ الْإِهَابَ، إِذَا شَقَقْتَهُ وَسَلَخْتَهُ. الثَّانِي: شَرَعَ مَأْخُوذٌ مِنَ الشُّرُوعِ فِي الشَّيْءِ وَهُوَ الدُّخُولُ فِيهِ، وَالشَّرِيعَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْمُشْرَعَةُ الَّتِي يَشْرَعُهَا النَّاسُ فَيَشْرَبُونَ مِنْهَا، فالشريعة فعيلة بمعنى الفعولة، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّه تَعَالَى عَلَى الْمُكَلَّفِينَ أَنْ يَشْرَعُوا فِيهَا، وَأَمَّا الْمِنْهَاجُ فَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ، يُقَالُ: نَهَجْتُ لَكَ الطَّرِيقَ وَأَنْهَجْتُ لُغَتَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا لَا يَلْزَمُنَا، لِأَنَّ قَوْلَهُ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ رَسُولٍ مُسْتَقِلًّا بِشَرِيعَةٍ خَاصَّةٍ، وَذَلِكَ يَنْفِي كَوْنَ أُمَّةِ أَحَدِ الرُّسُلِ مُكَلَّفَةً بِشَرِيعَةِ الرَّسُولِ الْآخَرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَرَدَتْ آيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ التَّبَايُنِ فِي طَرِيقَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَآيَاتٌ دَالَّةٌ عَلَى حُصُولِ التَّبَايُنِ فِيهَا.

أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً [الشُّورَى: ١٣] إِلَى قَوْلِهِ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشُّورَى: ١٣] وَقَالَ أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَامِ: ٩٠] .

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنْ نَقُولَ: النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنَ الْآيَاتِ مَصْرُوفٌ إِلَى مَا يَتَعَلَّقُ

<<  <  ج: ص:  >  >>