للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[في قوله تعالى وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ] فيه مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالُوا: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَاسٍ مِنَ الْيَهُودِ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيُظْهِرُونَ لَهُ الْإِيمَانَ نِفَاقًا، فَأَخْبَرَهُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ بِشَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ مَجْلِسِكَ كَمَا دَخَلُوا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِقَلْبِهِمْ شَيْءٌ مِنْ دَلَائِلِكَ وَتَقْرِيرَاتِكَ وَنَصَائِحِكَ وَتَذْكِيرَاتِكَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ ... خَرَجُوا بِهِ يُفِيدُ بَقَاءَ الْكُفْرِ مَعَهُمْ حَالَتَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ مِنْ غَيْرِ نُقْصَانٍ وَلَا تَغْيِيرٍ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، كَمَا تَقُولُ: دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وَخَرَجَ بِهِ، أَيْ بَقِيَ ثَوْبُهُ حَالَ الْخُرُوجِ كَمَا كَانَ حَالَ الدُّخُولِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ عِنْدَ الدُّخُولِ كَلِمَةَ «قَدْ» فَقَالَ وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَذَكَرَ عِنْدَ الْخُرُوجِ كَلِمَةَ هُمْ فَقَالَ: وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ قَالُوا: الْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ كَلِمَةِ «قَدْ» تَقْرِيبُ الْمَاضِي مِنَ الْحَالِ، وَالْفَائِدَةُ فِي ذِكْرِ كَلِمَةِ «هُمْ» التَّأْكِيدُ فِي إِضَافَةِ الْكُفْرِ إِلَيْهِمْ، وَنَفْيُ أَنْ يَكُونَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ فِعْلٌ، أَيْ لَمْ يَسْمَعُوا مِنْكَ يَا مُحَمَّدُ عِنْدَ جُلُوسِهِمْ مَعَكَ مَا يُوجِبُ كُفْرًا، فَتَكُونَ أَنْتَ الَّذِي أَلْقَيْتَهُمْ فِي الْكُفْرِ، بَلْ هُمُ الَّذِينَ خَرَجُوا بِالْكُفْرِ بِاخْتِيَارِ أَنْفُسِهِمْ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ الْكُفْرَ إِلَيْهِمْ حَالَتَيِ الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ عَلَى سَبِيلِ الذَّمِّ، وَبَالَغَ فِي تَقْرِيرِ تِلْكَ الْإِضَافَةِ بِقَوْلِهِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْعَبْدِ لَا مِنَ اللَّه.

وَالْجَوَابُ: الْمُعَارَضَةُ بِالْعِلْمِ وَالدَّاعِي.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ وَالْغَرَضُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِيمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ فِي الْمَكْرِ بِالْمُسْلِمِينَ والكيد بهم والبغض والعداوة لهم ثم قال تعالى:

[[سورة المائدة (٥) : آية ٦٢]]

وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢)

الْمُسَارَعَةُ فِي الشَّيْءِ الشُّرُوعُ فِيهِ بِسُرْعَةٍ. قِيلَ: الْإِثْمُ الْكَذِبُ، وَالْعُدْوَانُ الظُّلْمُ. وَقِيلَ: الْإِثْمُ مَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَالْعُدْوَانُ مَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا أَكْلُ السُّحْتِ فَهُوَ أَخْذُ الرِّشْوَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِقْصَاءُ فِي تَفْسِيرِ السُّحْتِ، وَفِي الْآيَةِ فَوَائِدُ:

الْفَائِدَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ وَالسَّبَبُ أَنَّ كُلَّهُمْ مَا كَانَ يَفْعَلُ ذلك، بل كان بعضهم يستحيي فَيَتْرُكُ.

الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ لَفْظَ الْمُسَارَعَةِ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ فِي الْخَيْرِ. قَالَ تعالى: يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٤] وَقَالَ تَعَالَى: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥٦] فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ لَفْظَ الْعَجَلَةِ، إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ لَفْظَ الْمُسَارَعَةِ لِفَائِدَةٍ، وَهِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُقْدِمُونَ عَلَى هَذِهِ الْمُنْكَرَاتِ كَأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِيهِ.

الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: لَفْظُ الْإِثْمِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَعَاصِي وَالْمَنْهِيَّاتِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى بَعْدَهُ الْعُدْوَانَ وَأَكْلَ السُّحْتِ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَعْصِيَةِ وَالْإِثْمِ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى:

<<  <  ج: ص:  >  >>