للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ كُلُّهُ عَلَى الْجَمْعِ.

حُجَّةُ مَنْ جَمَعَ أَنَّ الرُّسُلَ يُبْعَثُونَ بِضُرُوبٍ مِنَ الرِّسَالَاتِ وَأَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّ آيَةٍ أَنْزَلَهَا اللَّه تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهِيَ رِسَالَةٌ، فَحَسُنَ لَفْظُ الْجَمْعِ، وَأَمَّا مَنْ أَفْرَدَ فَقَالَ: الْقُرْآنُ كُلُّهُ رِسَالَةٌ وَاحِدَةٌ، وَأَيْضًا فَإِنَّ لَفْظَ الْوَاحِدِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُجْمَعْ كَقَوْلِهِ وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الْفُرْقَانِ: ١٤] فَوَقَعَ الِاسْمُ الواحد على الجمع، وكذا هاهنا لَفْظُ الرِّسَالَةِ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْجَمْعُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ؟

أَجَابَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ بِأَنَّ الْمُرَادَ: إِنَّكَ إِنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِدًا مِنْهَا كُنْتَ كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئًا مِنْهَا، / وَهَذَا الْجَوَابُ عِنْدِي ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِالْبَعْضِ وَتَرَكَ الْبَعْضَ لَوْ قِيلَ: إِنَّهُ تَرَكَ الْكُلَّ لَكَانَ كَذِبًا وَلَوْ قِيلَ أَيْضًا: إِنَّ مِقْدَارَ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْبَعْضِ مِثْلُ مِقْدَارِ الْجُرْمِ فِي تَرْكِ الْكُلِّ فَهُوَ أَيْضًا مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ، فَسَقَطَ هَذَا الْجَوَابُ.

وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ هَذَا خَرَجَ عَلَى قَانُونِ قَوْلِهِ:

أَنَا أَبُو النَّجْمِ وَشِعْرِي شِعْرِي

وَمَعْنَاهُ أَنَّ شِعْرِي قَدْ بَلَغَ فِي الْكَمَالِ وَالْفَصَاحَةِ إِلَى حَيْثُ مَتَى قِيلَ فِيهِ: إِنَّهُ شِعْرِي فَقَدِ انْتَهَى مَدْحُهُ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا، فَهَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ التَّامَّةَ مِنْ هَذَا الوجه، فكذا هاهنا: فَإِنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ، يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُوصَفَ تَرْكُ التَّبْلِيغِ بِتَهْدِيدٍ أَعْظَمَ مِنْ أَنَّهُ تَرَكَ التَّبْلِيغَ، فَكَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى غَايَةِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي قِصَّةِ الْيَهُودِ. الثَّانِي: نَزَلَتْ فِي عَيْبِ الْيَهُودِ وَاسْتِهْزَائِهِمْ بِالدِّينِ وَالنَّبِيُّ سَكَتَ عَنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. الثَّالِثُ: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ، وهو قوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الْأَحْزَابِ: ٢٨] فَلَمْ يَعْرِضْهَا عَلَيْهِنَّ خَوْفًا مِنَ اخْتِيَارِهِنَّ الدُّنْيَا فَنَزَلَتْ. الرَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي أَمْرِ زَيْدٍ وَزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَمَ شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَى اللَّه، واللَّه تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ وَلَوْ كَتَمَ رَسُولُ اللَّه شَيْئًا مِنَ الْوَحْيِ لَكَتَمَ قَوْلَهُ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ [الْأَحْزَابِ: ٣٧] الْخَامِسُ: نَزَلَتْ فِي الْجِهَادِ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَكْرَهُونَهُ، فَكَانَ يُمْسِكُ أَحْيَانًا عَنْ حَثِّهِمْ عَلَى الْجِهَادِ.

السَّادِسُ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الْأَنْعَامِ: ١٠٨] سَكَتَ الرَّسُولُ عَنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ فنزلت هذه الْآيَةُ وَقَالَ بَلِّغْ يَعْنِي مَعَايِبَ آلِهَتِهِمْ وَلَا تُخْفِهَا عَنْهُمْ، واللَّه يَعْصِمُكَ مِنْهُمْ. السَّابِعُ: نَزَلَتْ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ

قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ لَمَّا بَيَّنَ الشَّرَائِعَ وَالْمَنَاسِكَ (هَلْ بَلَّغْتُ) قَالُوا نَعَمْ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اللَّهُمَّ فَاشْهَدْ»

الثَّامِنُ:

رُوِيَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَعَلَّقَ سَيْفَهُ عَلَيْهَا، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ وَهُوَ نَائِمٌ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَاخْتَرَطَهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ فَقَالَ «اللَّه» فَرَعَدَتْ يَدُ الْأَعْرَابِيِّ وَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ وَضَرَبَ بِرَأْسِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى انْتَثَرَ دِمَاغُهُ، فَأَنْزَلَ اللَّه هَذِهِ الْآيَةَ

وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَعْصِمُهُ مِنَ النَّاسِ. التَّاسِعُ: كَانَ يَهَابُ قُرَيْشًا وَالْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، فَأَزَالَ اللَّه عن قلبه

<<  <  ج: ص:  >  >>