للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَالْمَعْنَى: لَوْ كَانُوا يؤمنون باللَّه والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التَّوْرَاةِ كَمَا يَدَّعُونَ مَا اتَّخَذُوا الْمُشْرِكِينَ أَوْلِيَاءَ، لِأَنَّ تَحْرِيمَ ذَلِكَ مُتَأَكِّدٌ فِي التَّوْرَاةِ وَفِي شَرْعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ تَقْرِيرَ دِينِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ مُرَادُهُمُ الرِّيَاسَةُ وَالْجَاهُ فَيَسْعَوْنَ فِي تَحْصِيلِهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرُوا عَلَيْهِ، فَلِهَذَا وَصَفَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِالْفِسْقِ فَقَالَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ذَكَرَهُ الْقَفَّالُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى:

وَلَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُتَوَلُّونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُؤْمِنُونَ باللَّه وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا اتَّخَذَهُمْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودُ أَوْلِيَاءَ، وَهَذَا الْوَجْهُ حَسَنٌ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ ما يدفعه.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٨٢]]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢)

قَوْلُهُ تَعَالَى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى.

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَا ذَكَرَهُ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الآية أن اليهود في غاية العداوة مَعَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرَنَاءَ لِلْمُشْرِكِينَ فِي شدة العداوة، بل نبّه على أنهم أشد في العداوة مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَهُمْ عَلَى ذِكْرِ الْمُشْرِكِينَ. وَلَعَمْرِي إِنَّهُمْ كَذَلِكَ.

وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا خَلَا يَهُودِيَّانِ بِمُسْلِمٍ إِلَّا هَمَّا بِقَتْلِهِ»

وَذَكَرَ اللَّه تَعَالَى أَنَّ النَّصَارَى أَلْيَنُ عَرِيكَةً من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم.

وهاهنا مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَالسُّدِّيُّ: الْمُرَادُ بِهِ النَّجَاشِيُّ وَقَوْمُهُ الَّذِينَ قَدِمُوا مِنَ الْحَبَشَةِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآمَنُوا بِهِ، وَلَمْ يُرِدْ جَمِيعَ النَّصَارَى مَعَ ظُهُورِ عَدَاوَتِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ. وَقَالَ آخَرُونَ:

مَذْهَبُ الْيَهُودِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ إِيصَالُ الشَّرِّ إِلَى مَنْ يُخَالِفُهُمْ فِي الدِّينِ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَإِنْ قَدَرُوا عَلَى الْقَتْلِ فَذَاكَ، وَإِلَّا فَبِغَصْبِ الْمَالِ أَوْ بِالسَّرِقَةِ أَوْ بِنَوْعٍ مِنَ الْمَكْرِ وَالْكَيْدِ وَالْحِيلَةِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ مَذْهَبُهُمْ ذَاكَ بَلِ الْإِيذَاءُ فِي دِينِهِمْ حَرَامٌ، فَهَذَا هُوَ وَجْهُ التَّفَاوُتِ:

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْمَقْصُودُ مِنْ بَيَانِ هَذَا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أَمْرِ الْيَهُودِ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَتَجِدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَسَمًا إنك تجد اليهود والمشركين أشد الناس عداوة مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ شَرَحْتُ لَكَ أَنَّ هَذَا التَّمَرُّدَ وَالْمَعْصِيَةَ عَادَةٌ قَدِيمَةٌ لَهُمْ، فَفَرِّغْ خَاطِرَكَ عَنْهُمْ وَلَا تُبَالِ بِمَكْرِهِمْ وَكَيْدِهِمْ.

ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى سَبَبَ هَذَا التَّفَاوُتِ فَقَالَ ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَفِي الْآيَةِ مَسْأَلَتَانِ:

الْأُولَى: عِلَّةُ هَذَا التَّفَاوُتِ أَنَّ الْيَهُودَ مَخْصُوصُونَ بِالْحِرْصِ الشَّدِيدِ عَلَى الدُّنْيَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:

<<  <  ج: ص:  >  >>