للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الْبَقَرَةِ: ٩٦] فَقَرَنَهُمْ فِي الْحِرْصِ بِالْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ لِلْمَعَادِ، وَالْحِرْصُ مَعْدِنُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا طَرَحَ دِينَهُ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَأَقْدَمَ عَلَى كُلِّ مَحْظُورٍ وَمُنْكَرٍ بِطَلَبِ الدُّنْيَا، فَلَا جَرَمَ تَشْتَدُّ عَدَاوَتُهُ مَعَ كُلِّ مَنْ نَالَ مَالًا أَوْ جَاهًا، وَأَمَّا النَّصَارَى فَإِنَّهُمْ فِي أَكْثَرِ الْأَمْرِ مُعْرِضُونَ عَنِ الدُّنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَى الْعِبَادَةِ وَتَرْكِ طَلَبِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّرَفُّعِ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحْسُدُ النَّاسَ وَلَا يُؤْذِيهِمْ وَلَا يُخَاصِمُهُمْ، بَلْ يَكُونُ لَيِّنَ الْعَرِيكَةِ فِي طَلَبِ الْحَقِّ سَهْلَ الِانْقِيَادِ لَهُ، فَهَذَا هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ.

وهاهنا دَقِيقَةٌ نَافِعَةٌ فِي طَلَبِ الدِّينِ وَهُوَ أَنَّ كُفْرَ النَّصَارَى أَغْلَظُ مِنْ كُفْرِ الْيَهُودِ لِأَنَّ النَّصَارَى يُنَازِعُونَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَفِي النُّبُوَّاتِ، وَالْيَهُودُ لَا يُنَازِعُونَ إِلَّا فِي النُّبُوَّاتِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ الْأَوَّلَ أَغْلَظُ، ثُمَّ إِنَّ النَّصَارَى مَعَ غِلْظِ كُفْرِهِمْ لَمَّا لَمْ يَشْتَدَّ حِرْصُهُمْ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بَلْ كَانَ فِي قَلْبِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الْمَيْلِ إِلَى الْآخِرَةِ شَرَّفَهُمُ اللَّه بِقَوْلِهِ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى وَأَمَّا الْيَهُودُ مَعَ أَنَّ كُفْرَهُمْ أَخَفُّ فِي جَنْبِ كُفْرِ النَّصَارَى طَرَدَهُمْ وَخَصَّهُمُ اللَّه بِمَزِيدِ اللَّعْنِ وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِسَبَبِ حِرْصِهِمْ عَلَى الدُّنْيَا، وَذَلِكَ يُنَبِّهُكَ عَلَى صِحَّةِ

قَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْقَسُّ وَالْقِسِّيسُ اسْمٌ لِرَئِيسِ النَّصَارَى، وَالْجَمْعُ الْقِسِّيسُونَ. وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: صَنَعَتِ النَّصَارَى الْإِنْجِيلَ وَأَدْخَلَتْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَبَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ عَلَى الْحَقِّ وَالدِّينِ، وَكَانَ اسْمُهُ قِسِّيسًا، فَمَنْ كَانَ عَلَى هَدْيِهِ وَدِينِهِ فَهُوَ قِسِّيسٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: الْقَسُّ وَالْقِسِّيسُ الْعَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ، وَهَذَا مِمَّا وَقَعَ الْوِفَاقُ فِيهِ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، وَأَمَّا الرُّهْبَانُ فَهُوَ جَمْعُ رَاهِبٍ كَرُكْبَانٍ وَرَاكِبٍ، وَفُرْسَانٍ وَفَارِسٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الرُّهْبَانُ وَاحِدٌ، وَجَمْعُهُ رَهَابِينُ كَقُرْبَانٍ وَقَرَابِينَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الرَّهْبَةِ بِمَعْنَى الْمَخَافَةِ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ مَدَحَهُمُ اللَّه تَعَالَى بِذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الْحَدِيدِ: ٢٧]

وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ» .

قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ صَارَ مَمْدُوحًا فِي مُقَابَلَةِ طَرِيقَةِ الْيَهُودِ فِي الْقَسَاوَةِ وَالْغِلْظَةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ كَوْنُهُ مَمْدُوحًا عَلَى الْإِطْلَاقِ.

[[سورة المائدة (٥) : آية ٨٣]]

وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الضَّمِيرُ فِي/ قَوْلِهِ سَمِعُوا يَرْجِعُ إِلَى الْقِسِّيسِينَ والرهبان الذين آمنوا منهم وما أُنْزِلَ يَعْنِي الْقُرْآنَ إِلَى الرَّسُولِ يَعْنِي مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ النجاشي وأصحابه، وذلك لأن جعفر الطَّيَّارَ قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ مَرْيَمَ، فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ تَبِنَةً مِنَ الْأَرْضِ وَقَالَ: واللَّه مَا زَادَ عَلَى مَا قَالَ اللَّه فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ هَذَا، وَمَا زَالُوا يَبْكُونَ حَتَّى فَرَغَ جَعْفَرٌ مِنَ الْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّ أَعْيُنَهُمْ تَمْتَلِئُ مِنَ الدَّمْعِ حَتَّى تَفِيضَ لِأَنَّ الْفَيْضَ أَنْ يَمْتَلِئَ الْإِنَاءُ وَغَيْرُهُ حَتَّى يَطَلُعَ مَا فِيهِ مِنْ جَوَانِبِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ المراد

<<  <  ج: ص:  >  >>