للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المائدة: ٩٨] أَتْبَعَهُ بِالتَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ يَعْنِي أَنَّهُ كَانَ مُكَلَّفًا بِالتَّبْلِيغِ فَلَمَّا بَلَّغَ خَرَجَ عَنِ الْعُهْدَةِ وَبَقِيَ الْأَمْرُ مِنْ جَانِبِكُمْ وَأَنَا عَالِمٌ بِمَا تُبْدُونَ وَبِمَا تَكْتُمُونَ، فَإِنْ خَالَفْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ، وَإِنْ أَطَعْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه غَفُورٌ رَحِيمٌ.

[[سورة المائدة (٥) : آية ١٠٠]]

قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠)

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا زَجَرَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَرَغَّبَ فِي الطَّاعَةِ بِقَوْلِهِ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المائدة: ٩٨] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالتَّكْلِيفِ بِقَوْلِهِ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: ٩٩] ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِالتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [المائدة: ٩٩] أَتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَقَالَ: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الَّذِي يَكُونُ جُسْمَانِيًّا، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَالثَّانِي: الَّذِي يَكُونُ رُوحَانِيًّا، وَأَخْبَثُ الْخَبَائِثِ الرُّوحَانِيَّةِ الْجَهْلُ وَالْمَعْصِيَةُ، وَأَطْيَبُ الطَّيِّبَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ مَعْرِفَةُ اللَّه تَعَالَى وَطَاعَةُ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْجِسْمَ الَّذِي يَلْتَصِقُ بِهِ شَيْءٌ مِنَ النَّجَاسَاتِ يَصِيرُ مُسْتَقْذَرًا عِنْدَ أَرْبَابِ الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ، فَكَذَلِكَ الْأَرْوَاحُ الْمَوْصُوفَةُ بِالْجَهْلِ باللَّه وَالْإِعْرَاضِ عَنْ طَاعَةِ اللَّه تَعَالَى تَصِيرُ مُسْتَقْذَرَةً عِنْدَ الْأَرْوَاحِ الْكَامِلَةِ الْمُقَدَّسَةِ. وَأَمَّا الْأَرْوَاحُ الْعَارِفَةُ باللَّه تَعَالَى الْمُوَاظِبَةُ عَلَى خِدْمَةِ اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّهَا تَصِيرُ مُشْرِقَةً بِأَنْوَارِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ مُبْتَهِجَةً بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْمُقَدَّسَةِ الطَّاهِرَةِ، وَكَمَا أَنَّ الْخَبِيثَ وَالطَّيِّبَ فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ لَا يَسْتَوِيَانِ، فَكَذَلِكَ فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ لَا يَسْتَوِيَانِ، بَلِ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَهُمَا فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ أَشَدُّ، لِأَنَّ مَضَرَّةَ خُبْثِ الْخَبِيثِ الْجُسْمَانِيِّ شَيْءٌ قَلِيلٌ، وَمَنْفَعَتَهُ طَيِّبَةٌ مُخْتَصَرَةٌ، وَأَمَّا خُبْثُ الْخَبِيثِ الرُّوحَانِيِّ فَمَضَرَّتُهُ عَظِيمَةٌ دَائِمَةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَطَيِّبُ الطَّيِّبِ الرُّوحَانِيِّ فَمَنْفَعَتُهُ عَظِيمَةٌ دَائِمَةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَهُوَ الْقُرْبُ مِنْ جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالِانْخِرَاطُ فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ، وَالْمُرَافَقَةُ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، فَكَانَ هَذَا مِنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ التَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ وَالتَّنْفِيرِ/ عَنِ الْمَعْصِيَةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَكُونُ خَبِيثًا فِي عَالَمِ الرُّوحَانِيَّاتِ، قَدْ يَكُونُ طَيِّبًا فِي عَالَمِ الْجُسْمَانِيَّاتِ، وَيَكُونُ كَثِيرَ الْمِقْدَارِ، وَعَظِيمَ اللَّذَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ مَعَ كَثْرَةِ مِقْدَارِهِ وَلَذَاذَةِ مُتَنَاوَلِهِ وَقُرْبِ وِجْدَانِهِ، سَبَبٌ لِلْحِرْمَانِ مِنَ السَّعَادَاتِ الْبَاقِيَةِ الْأَبَدِيَّةِ السَّرْمَدِيَّةِ، الَّتِي إِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ [الْكَهْفِ: ٤٦] وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَالْخَبِيثُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَتُهُ، يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلطَّيِّبِ الَّذِي هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالطَّاعَةُ وَالِابْتِهَاجُ بِالسَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْكَرَامَاتِ الرَّبَّانِيَّةِ.

وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ التَّرْغِيبَاتِ الْكَثِيرَةَ فِي الطَّاعَةِ، وَالتَّحْذِيرَاتِ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، أَتْبَعَهَا بِوَجْهٍ آخَرَ يُؤَكِّدُهَا، فَقَالَ تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أَيْ فَاتَّقُوا اللَّه بَعْدَ هَذِهِ الْبَيَانَاتِ الْجَلِيَّةِ، وَالتَّعْرِيفَاتِ الْقَوِيَّةِ، وَلَا تُقْدِمُوا عَلَى مُخَالَفَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَصِيرُونَ فَائِزِينَ بِالْمَطَالِبِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ.

[[سورة المائدة (٥) : آية ١٠١]]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٠١)

<<  <  ج: ص:  >  >>