للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي اتِّصَالِ هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا قَبْلَهَا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ [المائدة: ٩٩] صَارَ التَّقْدِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ، مَا بَلَّغَهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَخُذُوهُ، وَكُونُوا مُنْقَادِينَ لَهُ، وَمَا لَمْ يُبَلِّغْهُ الرَّسُولُ إِلَيْكُمْ فَلَا تَسْأَلُوا عَنْهُ، وَلَا تَخُوضُوا فِيهِ، فَإِنَّكُمْ إِنْ خُضْتُمْ فِيمَا لَا تَكْلِيفَ فِيهِ عَلَيْكُمْ فَرُبَّمَا جَاءَكُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْخَوْضِ الْفَاسِدِ مِنَ التَّكَالِيفِ مَا يَثْقُلُ عَلَيْكُمْ وَيَشُقُّ عَلَيْكُمْ. الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَهَذَا ادِّعَاءٌ مِنْهُ لِلرِّسَالَةِ، ثُمَّ إِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُطَالِبُونَهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْمُعْجِزَاتِ، بِمُعْجِزَاتٍ أُخَرَ عَلَى سَبِيلِ التَّعَنُّتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حَاكِيًا عَنْهُمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الْإِسْرَاءِ: ٩٠] إِلَى قَوْلِهِ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الْإِسْرَاءِ: ٩٣] وَالْمَعْنَى أَنِّي رَسُولٌ أُمِرْتُ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ إِلَيْكُمْ، واللَّه تَعَالَى قَدْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَايَ فِي الرِّسَالَةِ بِإِظْهَارِ أَنْوَاعٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، فَبَعْدَ ذَلِكَ طَلَبُ الزِّيَادَةِ مِنْ بَابِ التَّحَكُّمِ/ وَذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِي وَلَعَلَّ إِظْهَارَهَا يُوجِبُ مَا يَسُوءُكُمْ مِثْلُ أَنَّهَا لَوْ ظَهَرَتْ فَكُلُّ مَنْ خَالَفَ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتَوْجَبَ الْعِقَابَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا سَمِعُوا الْكُفَّارَ يُطَالِبُونَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ، وَقَعَ فِي قُلُوبِهِمْ مَيْلٌ إِلَى ظُهُورِهَا فَعَرَفُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبُوا ذَلِكَ فَرُبَّمَا كَانَ ظُهُورُهَا يُوجِبُ مَا يَسُوءُهُمْ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ هَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [المائدة: ٩٩] فَاتْرُكُوا الْأُمُورَ عَلَى ظَوَاهِرِهَا وَلَا تَسْأَلُوا عَنْ أحوال مخفية إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَشْيَاءَ جمع شيء وأنها غير متصرفة وَلِلنَّحْوِيِّينَ فِي سَبَبِ امْتِنَاعِ الصَّرْفِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: قَوْلُنَا شَيْءٌ جَمْعُهُ فِي الْأَصْلِ شَيْآءُ عَلَى وَزْنِ فَعْلَاءَ فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ الْهَمْزَتَيْنِ فِي آخِرِهِ، فَنَقَلُوا الْهَمْزَةَ الْأُولَى الَّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ إِلَى أَوَّلِ الْكَلِمَةِ فَجَاءَتْ لَفْعَاءُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ مَنْعَ الصَّرْفِ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، وَاحِدٌ مِنْهَا مَذْكُورٌ، وَاثْنَانِ خَطَرَا بِبَالِي.

أَمَّا الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْمَذْكُورُ فَهُوَ أَنَّ الْكَلِمَةَ لَمَّا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى وَزْنِ فَعَلَاءَ، مِثْلُ حمراء، لا جرم لم تنصرف كما لم ينصرف حَمْرَاءُ، وَالثَّانِي: أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ شَيَآءَ ثُمَّ جُعِلَتْ أَشْيَاءَ كَانَ ذَلِكَ تَشْبِيهًا بِالْمَعْدُولِ كَمَا فِي عَامِرٍ وَعُمَرَ، وَزَافِرٍ وَزُفَرَ، وَالْعَدْلُ أَحَدُ أَسْبَابِ مَنْعِ الصَّرْفِ. الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّا لَمَّا قَطَعْنَا الْحَرْفَ الْأَخِيرَ مِنْهُ وَجَعَلْنَاهُ أَوَّلَهُ، وَالْكَلِمَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا قُطِعَ مِنْهَا الْحَرْفُ الْأَخِيرُ صَارَتْ كَنِصْفِ الْكَلِمَةِ، وَنِصْفُ الْكَلِمَةِ لَا يَقْبَلُ الْإِعْرَابَ، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ ذَلِكَ الْحَرْفَ الَّذِي قَطَعْنَاهُ مِنْهَا مَا حَذَفْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ أَلْصَقْنَاهُ بِأَوَّلِهَا، كَانَتِ الْكَلِمَةُ كَأَنَّهَا بَاقِيَةٌ بِتَمَامِهَا، فَلَا جَرَمَ مَنَعْنَاهُ بَعْضَ وُجُوهِ الْإِعْرَابِ دُونَ الْبَعْضِ، تَنْبِيهًا عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ، فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ السَّبَبِ فِي مَنْعِ الصَّرْفِ مَا ذَكَرَهُ الْأَخْفَشُ وَالْفَرَّاءُ: وَهُوَ أَنَّ أَشْيَاءَ وَزْنُهُ أَفْعِلَاءُ، كَقَوْلِهِ أَصْدِقَاءُ وَأَصْفِيَاءُ، ثُمَّ إِنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ الْيَاءِ وَالْهَمْزَتَيْنِ فَقَدَّمُوا الْهَمْزَةَ، فَلَمَّا كَانَ أَشْيَاءُ فِي الْأَصْلِ أَشْيِيَاءَ عَلَى وَزْنِ أَصْدِقَاءَ وَأَفْعِلَاءَ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَجْرِي فِيهِ الصَّرْفُ، فَكَذَا هَاهُنَا.

<<  <  ج: ص:  >  >>