للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالرُّسُلِ، لَا شَكَّ أَنَّا نُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ ذَلِكَ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْجِنِّ وَالشَّيَاطِينِ، أَوْ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ لَمْ تَثْبُتْ عِصْمَتُهُمْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا التَّجْوِيزُ قَائِمًا فَقَدْ خَرَجَ نُزُولُ الْكِتَابِ مِنَ السَّمَاءِ عَنْ كَوْنِهِ دَلِيلًا عَلَى الصِّدْقِ.

قُلْنَا: لَيْسَ الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرْتُمْ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْهُ بَقُوا شَاكِّينَ فِيهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، فَإِذَا لَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فَقَدْ يَقْوَى الْإِدْرَاكُ الْبَصْرِيُّ بِالْإِدْرَاكِ اللَّمْسِيِّ، وَبَلَغَ الْغَايَةَ فِي الظُّهُورِ وَالْقُوَّةِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ يَبْقُونَ شَاكِّينَ فِي أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي رَأَوْهُ وَلَمَسُوهُ هَلْ هُوَ مَوْجُودٌ أَمْ لَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بَلَغُوا فِي الْجَهَالَةِ إِلَى حَدِّ السَّفْسَطَةِ، فَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ لَا مَا ذَكَرْتُمْ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْعَبْدَ لُطْفًا. عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ لَآمَنَ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّهُ إِنَّمَا لَا يُنَزِّلُ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ لَوْ أَنْزَلَهُ لَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَ بِذَلِكَ إِلَّا وَالْمَعْلُومُ أَنَّهُمْ لَوْ قَبِلُوهُ وَآمَنُوا بِهِ لِأَنْزَلَهُ لَا مَحَالَةَ فَثَبَتَ بِهَذَا وُجُوبُ اللُّطْفِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:

إِنَّ قَوْلَهُ لَوْ أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِمْ هَذَا الْكِتَابَ لَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُنْزِلُهُ عَلَيْهِمْ، لَوْ لَمْ يَقُولُوا هَذَا الْقَوْلَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ دَلِيلِ الْخِطَابِ، وَهُوَ عِنْدَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، وَأَيْضًا فَلَيْسَ كُلُّ مَا فَعَلَهُ اللَّه وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْآيَةُ إِنْ دَلَّتْ فَإِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْوُقُوعِ لَا عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوعِ واللَّه أعلم.

[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٨ الى ٩]

وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (٩)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الثَّالِثَ مِنْ شُبَهِ مُنْكِرِي النُّبُوَّاتِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ بَعَثَ اللَّه إِلَى الْخَلْقِ رَسُولًا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ كَانَتْ عُلُومُهُمْ أَكْثَرَ، وَقُدْرَتُهُمْ أَشَدَّ، وَمَهَابَتُهُمْ أَعْظَمَ، وَامْتِيَازُهُمْ عَنِ الْخَلْقِ أَكْمَلَ، وَالشُّبُهَاتُ وَالشُّكُوكُ فِي نُبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ أَقَلَّ. وَالْحَكِيمُ إِذَا أَرَادَ تَحْصِيلَ مُهِمٍّ فَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ أَشَدَّ إِفْضَاءً إِلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ كَانَ أَوْلَى. فَلَمَّا كَانَ وُقُوعُ الشُّبُهَاتِ فِي نُبُوَّةِ الْمَلَائِكَةِ أَقَلَّ، وَجَبَ لَوْ بَعَثَ اللَّه رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَمَّا الْأَوَّلُ: فَقَوْلُهُ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ وَمَعْنَى الْقَضَاءِ الْإِتْمَامُ وَالْإِلْزَامُ. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعَانِيَ الْقَضَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. ثُمَّ هاهنا وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ إِنْزَالَ الْمَلَكِ عَلَى الْبَشَرِ آيَةٌ بَاهِرَةٌ، فَبِتَقْدِيرِ إِنْزَالِ الْمَلَكِ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ فَرُبَّمَا لَمْ يُؤْمِنُوا كَمَا قَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ إِلَى قَوْلِهِ مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: ١١١] وَإِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا وَجَبَ إِهْلَاكُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، فَإِنَّ سُنَّةَ اللَّه جَارِيَةٌ بِأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ الْآيَةِ الْبَاهِرَةِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا جَاءَهُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ، فَهَهُنَا مَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى الْمَلَكَ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَسْتَحِقُّوا هَذَا الْعَذَابَ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ إِذَا شَاهَدُوا الْمَلَكَ زَهَقَتْ أَرْوَاحُهُمْ مِنْ هَوْلِ مَا يَشْهَدُونَ، وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّ الْآدَمِيَّ/ إِذَا رَأَى الْمَلَكَ فَإِمَّا أَنْ يَرَاهُ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ أَوْ عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ. فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ لَمْ يَبْقَ الْآدَمِيُّ حَيًّا، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى صُورَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ غُشِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَرْئِيُّ شَخْصًا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ، وَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>