للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يستهزؤن بِالْعَذَابِ الَّذِي كَانَ يُخَوِّفُهُمُ الرَّسُولُ بِنُزُولِهِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى هَذَا الْإِضْمَارِ.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١١]]

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١١)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا صَبَّرَ رَسُولَهُ بِالْآيَةِ الْأُولَى، فَكَذَلِكَ حَذَّرَ الْقَوْمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالَ لِرَسُولِهِ قُلْ لَهُمْ لَا تَغْتَرُّوا بِمَا وَجَدْتُمْ مِنَ الدُّنْيَا وَطَيِّبَاتِهَا وَوَصَلْتُمْ إِلَيْهِ مِنْ لَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا، بَلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ لِتَعْرِفُوا صِحَّةَ مَا أَخْبَرَكُمُ الرَّسُولُ عَنْهُ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّالِفَةِ، فَإِنَّكُمْ عِنْدَ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّفَرِ فِي الْبِلَادِ لَا بُدَّ وَأَنْ تُشَاهِدُوا تِلْكَ الْآثَارَ، فَيَكْمُلَ الِاعْتِبَارُ، وَيَقْوَى الِاسْتِبْصَارُ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ فَانْظُروا [آل عمران: ١٣٧] وَبَيْنَ قَوْلِهِ ثُمَّ انْظُرُوا.

قُلْنَا: قَوْلُهُ فَانْظُروا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ النَّظَرَ سَبَبًا عَنِ السَّيْرِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: سِيرُوا لِأَجْلِ النَّظَرِ وَلَا تَسِيرُوا سَيْرَ الْغَافِلِينَ.

وَأَمَّا قَوْلُهُ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا فَمَعْنَاهُ إِبَاحَةُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْمَنَافِعِ، وَإِيجَابُ النَّظَرِ فِي آثَارِ الْهَالِكِينَ، ثُمَّ نَبَّهَ اللَّه تَعَالَى عَلَى هَذَا الْفَرْقِ بِكَلِمَةِ (ثُمَّ) لِتَبَاعُدِ ما بين الواجب والمباح.

واللَّه أعلم.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ١٢]]

قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ] فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَقْرِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ، وَتَقْرِيرُ الْمَعَادِ وَتَقْرِيرُ النُّبُوَّةِ.

وَبَيَانُهُ أَنَّ أَحْوَالَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الْأَجْسَامِ مَوْصُوفَةٌ بِصِفَاتٍ كَانَ يَجُوزُ عَلَيْهَا اتِّصَافُهَا بِأَضْدَادِهَا وَمُقَابَلَاتِهَا، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ، فَاخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ الْجُسْمَانِيَّةِ بِصِفَتِهِ الْمُعَيَّنَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لِأَجْلِ أَنَّ الصَّانِعَ الْحَكِيمَ الْقَادِرَ الْمُخْتَارَ خَصَّهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَالَمَ مَعَ كُلِّ مَا فِيهِ مَمْلُوكٌ للَّه تَعَالَى.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادِرًا عَلَى الْإِعَادَةِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ، لِأَنَّ التَّرْكِيبَ الْأَوَّلَ إِنَّمَا حَصَلَ لِكَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ، عَالِمًا بِكُلِّ الْمَعْلُومَاتِ، وَهَذِهِ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَمْتَنِعُ زَوَالُهُمَا، فَوَجَبَ صِحَّةُ الْإِعَادَةِ ثَانِيًا. وَأَيْضًا ثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مَلِكٌ مُطَاعٌ، وَالْمَلِكُ الْمُطَاعُ مَنْ لَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى عَبِيدِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُبَلِّغٍ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَعْثَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مِنَ اللَّه تَعَالَى إِلَى الْخَلْقِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَافِيَةٌ بِإِثْبَاتِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ الثَّلَاثَةِ. وَلَمَّا سَبَقَ ذِكْرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثَةِ، ذَكَرَ اللَّه بَعْدَهَا هَذِهِ الْآيَةَ لِتَكُونَ مُقَرِّرَةً لِمَجْمُوعِ تِلْكَ الْمَطَالِبِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي شَرَحْنَاهُ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ سُؤَالٌ. وَقَوْلُهُ قُلْ لِلَّهِ جَوَابٌ فَقَدْ أَمَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِالسُّؤَالِ أَوَّلًا ثُمَّ بِالْجَوَابِ ثَانِيًا. وَهَذَا، إِنَّمَا يَحْسُنُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ الْجَوَابُ قَدْ بَلَغَ فِي

<<  <  ج: ص:  >  >>