للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الظُّهُورِ إِلَى حَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِهِ مُنْكِرٌ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ دَافِعٌ. وَلَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ آثَارَ الْحُدُوثِ وَالْإِمْكَانِ ظَاهِرَةٌ فِي ذَوَاتِ جَمِيعِ الْأَجْسَامِ وَفِي جَمِيعِ صِفَاتِهَا، لَا جَرَمَ كَانَ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهَا بِأَسْرِهَا مِلْكٌ للَّه تَعَالَى وَمِلْكٌ لَهُ وَمَحِلُّ تَصَرُّفِهِ وَقُدْرَتِهِ لَا جَرَمَ أَمَرَهُ بِالسُّؤَالِ أَوَّلًا/ ثُمَّ بِالْجَوَابِ ثَانِيًا، لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِمَّا لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ الْبَتَّةَ. وَأَيْضًا فَالْقَوْمُ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّ كُلَّ الْعَالَمِ مُلْكٌ للَّه، وَمِلْكُهُ وَتَحْتَ تَصَرُّفِهِ وَقَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى كَمَا قَالَ: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لُقْمَانَ: ٢٥] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَمَالَ إِلَهِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَنَفَاذَ تَصَرُّفِهِ فِي عَالَمِ الْمَخْلُوقَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ، أَرْدَفَهُ بِكَمَالِ رَحْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ إِلَى الْخَلْقِ فَقَالَ: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّهُ لَمْ يَرْضَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ لَا ينعم ولا بأن يَعِدَ بِالْإِنْعَامِ، بَلْ أَبَدًا يُنْعِمُ وَأَبَدًا يُعِدُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِالْإِنْعَامِ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ ذَلِكَ وَأَوْجَبَهُ إِيجَابَ الْفَضْلِ وَالْكَرَمِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تِلْكَ الرَّحْمَةُ هِيَ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُهُمْ مُدَّةَ عُمُرِهِمْ وَيَرْفَعُ عَنْهُمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالَ وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ إِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لِمَنْ تَرَكَ التَّكْذِيبَ بِالرُّسُلِ وَتَابَ وَأَنَابَ وَصَدَّقَهُمْ وَقَبِلَ شَرِيعَتَهُمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الْكَثِيرَةُ فِي سِعَةِ رَحْمَةِ اللَّه تَعَالَى،

عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَمَّا فَرَغَ اللَّه مِنَ الْخَلْقِ كَتَبَ كِتَابًا أَنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي» .

فَإِنْ قِيلَ: الرَّحْمَةُ هِيَ إِرَادَةُ الْخَيْرِ، وَالْغَضَبُ هُوَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ، وَظَاهِرُ هَذَا الْخَبَرِ يَقْتَضِي كَوْنَ إِحْدَى الْإِرَادَتَيْنِ سَابِقَةً عَلَى الْأُخْرَى، وَالْمَسْبُوقُ بِالْغَيْرِ مُحْدَثٌ، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ إِرَادَةِ اللَّه تَعَالَى مُحْدَثَةً.

قُلْنَا: الْمُرَادُ بِهَذَا السَّبْقِ سَبْقُ الْكَثْرَةِ لَا سَبْقُ الزَّمَانِ. وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَلَقَ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ خَلَقَ مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلُّ رَحْمَةٍ مَلْءُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَعِنْدَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ رَحْمَةً، وَقَسَّمَ رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْخَلَائِقِ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَيَتَرَاحَمُونَ، فَإِذَا كَانَ آخِرُ الْأَمْرِ قَصَرَهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ.

أَمَّا قَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: «اللَّامُ» فِي قَوْلِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ لَامُ قَسَمٍ مُضْمَرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: واللَّه لَيَجْمَعَنَّكُمْ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مُبْتَدَأٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ كَلَامٌ مُبْتَدَأٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَمَالَ إِلَهِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يَرْحَمُهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْإِمْهَالِ وَدَفْعِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَوْلُهُ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ يُمْهِلُهُمْ وَقَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أَنَّهُ لَا يُمْهِلُهُمْ بَلْ يَحْشُرُهُمْ وَيُحَاسِبُهُمْ عَلَى كُلِّ مَا فَعَلُوا.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا قَبْلَهُ وَالتَّقْدِيرُ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ. وَكَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا قَالَ: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا تِلْكَ الرَّحْمَةُ؟ فَقِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْلَا خَوْفُ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَحَصَلَ الْهَرَجُ وَالْمَرَجُ وَلَارْتَفَعَ الضَّبْطُ وَكَثُرَ الْخَبْطُ، فَصَارَ التَّهْدِيدُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ فِي الدُّنْيَا، فَكَانَ قَوْلُهُ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>