للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ غَايَةَ جَهْلِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ بَيَّنَ مِنْ حَالِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُمْ إذا نزلت بهم بلية أو محنة فإنهم يفزعون إلى اللَّه تعالى ويلجئون إِلَيْهِ وَلَا يَتَمَرَّدُونَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الْفَرَّاءُ لِلْعَرَبِ فِي (أَرَأَيْتَ) لُغَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: رُؤْيَةُ الْعَيْنِ، فَإِذَا قُلْتَ للرجل رأيتك كَانَ الْمُرَادُ: أَهَلْ رَأَيْتَ نَفْسَكَ؟ ثُمَّ يُثَنَّى وَيُجْمَعُ. فَنَقُولُ: أَرَأَيْتَكُمَا أَرَأَيْتَكُمْ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ تَقُولَ أَرَأَيْتَكَ، وَتُرِيدَ: أَخْبِرْنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ هَذَا الْمَعْنَى تَرَكْتَ التَّاءَ مَفْتُوحَةً عَلَى كُلِّ حَالٍ تَقُولُ: أَرَأَيْتَكَ أَرَأَيْتَكُمَا أَرَأَيْتَكُمْ أَرَأَيْتَكُنَّ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ: أَنَّ الضَّمِيرَ الثَّانِيَ وَهُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِكَ: أَرَأَيْتَكَ لَا مَحَلَّ له من الاعراب، والدليل قوله تعالى: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الْإِسْرَاءِ: ٦٢] وَيُقَالُ أَيْضًا: أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا مَا شَأْنُهُ، وَلَوْ جَعَلْتَ الْكَافَ مَحَلًّا لَكُنْتَ كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ زَيْدًا مَا شَأْنُهُ، وَذَلِكَ كَلَامٌ فَاسِدٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْكَافَ لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الْإِعْرَابِ، بَلْ هُوَ حَرْفٌ لِأَجْلِ الْخِطَابِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَوْ كَانَتِ الْكَافُ تَوْكِيدًا لَوَقَعَتِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ عَلَى التَّاءِ، كَمَا يَقَعَانِ عَلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ الْكَافِ، فَلَمَّا فُتِحَتِ التَّاءُ فِي خِطَابِ الْجَمْعِ، وَوَقَعَتْ عَلَامَةُ الْجَمْعِ عَلَى الْكَافِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَافَ غَيْرُ مَذْكُورٍ لِلتَّوْكِيدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافَ لَوْ سَقَطَتْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يُقَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَرَأَيْتَ، فَثَبَتَ بِهَذَا انْصِرَافُ الْفِعْلِ إِلَى الْكَافِ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَازِمَةٌ مُفْتَقَرٌ إِلَيْهَا.

أَجَابَ الْوَاحِدِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ تَبْطُلُ بِكَافِ ذَلِكَ وَأُولَئِكَ، فَإِنَّ عَلَامَةَ الْجَمْعِ تَقَعُ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهَا حَرْفٌ لِلْخِطَابِ، مُجَرَّدٌ عَنِ الِاسْمِيَّةِ، واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ نافع أرأيتكم. وأ رأيت. وأ فرأيت. وأ رأيتك وأ فرأيت وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ/ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْكِسَائِيُّ تَرَكَ الْهَمْزَةَ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ. أَمَّا تَخْفِيفُ الْهَمْزَةِ، فَالْمُرَادُ جَعْلُهَا بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْأَلْفِ عَلَى التَّخْفِيفِ الْقِيَاسِيِّ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْكِسَائِيِّ فَحَسَنٌ، وَبِهِ قَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشِّعْرِ، وَقَدْ تَكَلَّمَتِ الْعَرَبُ فِي مِثْلِهِ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ لِلتَّخْفِيفِ كَمَا قَالُوا: وَسَلْهُ، وَكَمَا أَنْشَدَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى:

وَإِنْ لَمْ أُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعًا

بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ. أَرَادَ فَأَلْبِسُونِي بِإِثْبَاتِ الْهَمْزَةِ. وَأَمَّا الَّذِينَ قَرَءُوا بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ فَالسَّبَبُ أَنَّ الْهَمْزَةَ عَيْنُ الْفِعْلِ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ لِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّه فِي الدُّنْيَا وَأَتَاكُمُ الْعَذَابُ عِنْدَ قِيَامِ السَّاعَةِ، أَتَرْجِعُونَ إِلَى غَيْرِ اللَّه فِي دَفْعِ ذَلِكَ الْبَلَاءِ وَالضُّرِّ أَوْ تَرْجِعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّه تَعَالَى؟ وَلَمَّا كَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَرْجِعُونَ إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَالْمِحْنَةِ لَا إِلَى الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، لَا جرم قال بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يَعْنِي أَنَّكُمْ لَا تَرْجِعُونَ فِي طَلَبِ دَفْعِ الْبَلِيَّةِ وَالْمِحْنَةِ إِلَّا إِلَى اللَّه تَعَالَى.

ثُمَّ قَالَ: فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ أَيْ فَيَكْشِفُ الضُّرَّ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ دَعَوْتُمْ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمُرَادُ تَتْرُكُونَ الْأَصْنَامَ ولا تدعونهم لعلكم أَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ. الثَّانِي: قَالَ

<<  <  ج: ص:  >  >>