للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوْلِهِ: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ إِذَا شَهِدَتِ الْفِطْرَةُ السَّلِيمَةُ وَالْخِلْقَةُ الْأَصْلِيَّةُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَى اللَّه، وَلَا تَعْوِيلَ إِلَّا عَلَى فَضْلِ اللَّه، وَجَبَ أَنْ يَبْقَى هَذَا الْإِخْلَاصُ عِنْدَ كُلِّ الْأَحْوَالِ وَالْأَوْقَاتِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ الْفَوْزِ بِالسَّلَامَةِ وَالنَّجَاةِ. يُحِيلُ تِلْكَ السَّلَامَةَ إِلَى الْأَسْبَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَيُقْدِمُ عَلَى الشِّرْكِ، وَمِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الطَّعْنُ فِي إِلَهِيَّةِ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَنَا أَقُولُ: التَّعَلُّقُ بِشَيْءٍ مِمَّا سِوَى اللَّه فِي طَرِيقِ الْعُبُودِيَّةِ يَقْرُبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعَلُّقًا بِالْوَثَنِ، فَإِنَّ أَهْلَ التَّحْقِيقِ يُسَمُّونَهُ بِالشِّرْكِ الْخَفِيِّ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الشَّدَائِدِ يَأْتِي الْإِنْسَانُ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: الدُّعَاءُ. وَثَانِيهَا:

التَّضَرُّعُ. وَثَالِثُهَا: الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَخُفْيَةً وَرَابِعُهَا: الْتِزَامُ الِاشْتِغَالِ بِالشُّكْرِ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ يُنَجِّيهِمْ مِنْ تِلْكَ الْمَخَاوِفِ، وَمِنْ سَائِرِ مُوجِبَاتِ الْخَوْفِ وَالْكَرْبِ. ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يُقْدِمُ عَلَى الشِّرْكِ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: / ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وَقَوْلُهُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ وَبِالْجُمْلَةِ فَعَادَةُ أَكْثَرِ الْخَلْقِ ذَلِكَ. إِذَا شَاهَدُوا الأمر الهائل أخصلوا، وَإِذَا انْتَقَلُوا إِلَى الْأَمْنِ وَالرَّفَاهِيَةِ أَشْرَكُوا بِهِ.

[[سورة الأنعام (٦) : آية ٦٥]]

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (٦٥)

فِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا نَوْعٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ مَمْزُوجٌ بِنَوْعٍ مِنَ التَّخْوِيفِ فَبَيَّنَ كَوْنَهُ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى إِيصَالِ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَمَّا إِرْسَالُ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ تَارَةً مِنْ فَوْقِهِمْ، وَتَارَةً مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَنَقُولُ: الْعَذَابُ النَّازِلُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ مِثْلُ الْمَطَرِ النَّازِلِ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ، كَمَا فِي قِصَّةِ نُوحٍ وَالصَّاعِقَةُ النَّازِلَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ. وَكَذَا الصَّيْحَةُ النَّازِلَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ فَوْقُ. كَمَا حُصِبَ قَوْمُ لُوطٍ، وَكَمَا رُمِيَ أَصْحَابُ الْفِيلِ، وَأَمَّا الْعَذَابُ الَّذِي ظَهَرَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ. فَمِثْلُ الرَّجْفَةِ، وَمِثْلُ خَسْفِ قَارُونَ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُ الْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذِهِ الْآيَةُ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ الَّتِي يُمْكِنُ نُزُولُهَا مِنْ فَوْقُ، وَظُهُورُهَا مِنْ أَسْفَلُ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مَجَازِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي رِوَايَةٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَيْ مِنَ الْأُمَرَاءِ، وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ مِنَ الْعَبِيدِ وَالسَّفَلَةِ. أَمَّا قَوْلُهُ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً فَاعْلَمْ أَنَّ الشِّيَعَ جَمْعُ الشِّيعَةِ، وَكُلُّ قَوْمٍ اجْتَمَعُوا عَلَى أَمْرٍ فَهُمْ شِيعَةٌ وَالْجُمَعُ شِيَعٌ وَأَشْيَاعٌ. قَالَ تَعَالَى: كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سبأ: ٥٤] وأصله من الشيع وهو اتبع، وَمَعْنَى الشِّيعَةِ الَّذِينَ يَتْبَعُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا. قَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلُهُ: يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يَخْلِطَ أَمْرَكُمْ خَلْطَ اضْطِرَابٍ لَا خَلْطَ اتِّفَاقٍ، فَيَجْعَلَكُمْ فِرَقًا وَلَا تَكُونُونَ فِرْقَةً وَاحِدَةً، فَإِذَا كُنْتُمْ مُخْتَلِفِينَ قَاتَلَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: لَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ/ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَقَالَ: «مَا بَقَاءُ أُمَّتِي إِنْ عُومِلُوا بِذَلِكَ» فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَادْعُ رَبَّكَ لِأُمَّتِكَ، فَسَأَلَ رَبَّهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ بِهِمْ ذَلِكَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ: إِنَّ اللَّه قَدْ أَمَّنَهُمْ مِنْ خَصْلَتَيْنِ أَنْ لَا يَبْعَثَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا بَعَثَهُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ وَلُوطٍ، وَلَا مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ كَمَا خَسَفَ بِقَارُونَ وَلَمْ يُجِرْهُمْ مِنْ أَنْ يَلْبِسَهُمْ شِيَعًا بِالْأَهْوَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بأس بعض

<<  <  ج: ص:  >  >>