للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ إِشَارَةٌ إِلَى كَلَامٍ تَقَدَّمَ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَالُوا لَهُ: أَمَا تَخَافُ أَنْ تَخْبِلَكَ آلِهَتُنَا لِأَجْلِ أَنَّكَ شَتَمْتَهُمْ. فَقَالَ لَهُمْ:

أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْتُمْ حيث أقدمتهم عَلَى الشِّرْكِ باللَّه وَسَوَّيْتُمْ فِي الْعِبَادَةِ بَيْنَ خَالِقِ الْعَالَمِ وَمُدَبِّرِهِ وَبَيْنَ الْخَشَبِ الْمَنْحُوتِ وَالصَّنَمِ الْمَعْمُولِ؟ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْكُلُّ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: حُجَّتُنا خَبَرُهُ وَقَوْلُهُ: آتَيْناها إِبْراهِيمَ صِفَةٌ لِذَلِكَ الْخَبَرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحُجَّةَ إِنَّمَا حَصَلَتْ فِي عَقْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِيتَاءِ اللَّه وَبِإِظْهَارِهِ تِلْكَ الْحُجَّةَ فِي عَقْلِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ لَا يَحْصُلَانِ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى. وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ دَرَجَاتِ إِبْرَاهِيمَ بِسَبَبِ أَنَّهُ تَعَالَى آتَاهُ تِلْكَ الْحُجَّةَ، وَلَوْ كَانَ حُصُولُ الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْحُجَّةِ إِنَّمَا كَانَ مِنْ قِبَلِ إِبْرَاهِيمَ لَا مِنْ قِبَلِ اللَّه تَعَالَى لَكَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي رَفَعَ دَرَجَاتِ نَفْسِهِ/ وَحِينَئِذٍ كَانَ قَوْلُهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بَاطِلًا. فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا صَرِيحُ قَوْلِنَا فِي مَسْأَلَةِ الْهُدَى وَالضَّلَالِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْحَشْوِيَّةِ فِي الطَّعْنِ فِي النَّظَرِ وَتَقْرِيرِ الْحُجَّةِ وَذِكْرِ الدَّلِيلِ. لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُصُولَ الرِّفْعَةِ وَالْفَوْزَ بِالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، لِأَجْلِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْحُجَّةَ فِي التَّوْحِيدِ وَقَرَّرَهَا وَذَبَّ عَنْهَا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا مَرْتَبَةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ أَعْلَى وَأَشْرَفُ مِنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ دَرَجاتٍ بِالتَّنْوِينِ مِنْ غَيْرِ إِضَافَةٍ وَالْبَاقُونَ بِالْإِضَافَةِ، فَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى مَعْنَاهَا: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ دَرَجَاتٍ كَثِيرَةً، فَيَكُونُ «مَنْ» فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ. قَالَ ابْنُ مُقْسِمٍ: هَذِهِ الْقِرَاءَةُ أَدُلُّ عَلَى تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْمَنْزِلَةِ وَالرِّفْعَةِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو: الْإِضَافَةُ تَدُلُّ عَلَى الدَّرَجَةِ الْوَاحِدَةِ وَعَلَى الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ وَالتَّنْوِينُ لَا يَدُلُّ إِلَّا عَلَى الدَّرَجَاتِ الْكَثِيرَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الدَّرَجَاتِ. قِيلَ: دَرَجَاتُ أَعْمَالِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: تِلْكَ الْحُجَجُ دَرَجَاتٌ رَفِيعَةٌ، لِأَنَّهَا تُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ. وَقِيلَ: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ فِي الدُّنْيَا بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ. وَقِيلَ: نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ بِالْعِلْمِ. وَاعْلَمْ أن هذه الآية من أدل الدلائل على أَنَّ كَمَالَ السَّعَادَةِ فِي الصِّفَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ وَفِي الْبُعْدِ عَنِ الصِّفَاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.

ثُمَّ قَالَ بَعْدَهُ: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِحُصُولِ هَذِهِ الرَّفْعَةِ هُوَ إِيتَاءُ تِلْكَ الْحُجَّةِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ وُقُوفَ النَّفْسِ عَلَى حَقِيقَةِ تِلْكَ الْحُجَّةِ وَإِطْلَاعَهَا عَلَى إِشْرَاقِهَا اقْتَضَتِ ارْتِفَاعَ الرُّوحِ مِنْ حَضِيضِ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ، إِلَى أَعَالِي الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا رِفْعَةَ وَلَا سَعَادَةَ إِلَّا فِي الرُّوحَانِيَّاتِ. واللَّه أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>