للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّمَا يُفِيدُ الْمَدْحَ لَوْ كَانَ صَحِيحَ الرُّؤْيَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ كَوْنَهُ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ، وَتَمَامُ التَّحْقِيقِ فِيهِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ رُؤْيَتُهُ، فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِ مَدْحٌ وَتَعْظِيمٌ لِلشَّيْءِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فِي نَفْسِهِ جَائِزَ الرُّؤْيَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدَرَ عَلَى حَجْبِ الْأَبْصَارِ عَنْ رُؤْيَتِهِ وَعَنْ إِدْرَاكِهِ كَانَتْ هَذِهِ الْقُدْرَةُ الْكَامِلَةُ دَالَّةً عَلَى الْمَدْحِ وَالْعَظَمَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ.

وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَائِلَ قَائِلَانِ: قَائِلٌ قَالَ بِجَوَازِ الرُّؤْيَةِ مَعَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ، وَقَائِلٌ قَالَ لَا يَرَوْنَهُ وَلَا تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ. فَأَمَّا الْقَوْلُ بِأَنَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ رُؤْيَتُهُ مَعَ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ قَوْلٌ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأُمَّةِ فَكَانَ بَاطِلًا. فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ فِي ذَاتِهِ، وَثَبَتَ أَنَّهُ مَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى حُصُولِ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ لَطِيفٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ الْمُرَادُ بِالْأَبْصَارِ فِي قَوْلِهِ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْإِبْصَارِ فَإِنَّ الْبَصَرَ لَا يُدْرِكُ شَيْئًا الْبَتَّةَ فِي مَوْضِعٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ. بَلِ الْمُدْرِكُ هُوَ الْمُبْصِرُ فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هُوَ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ الْمُبْصِرُونَ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ قَوْلُهُ: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْمُبْصِرِينَ، وَمُعْتَزِلَةُ الْبَصْرَةِ يُوَافِقُونَنَا عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُبْصِرُ الْأَشْيَاءَ فَكَانَ هُوَ تَعَالَى مِنْ جُمْلَةِ الْمُبْصِرِينَ فَقَوْلُهُ:

وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ تَعَالَى مُبْصِرًا لِنَفْسِهِ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ تَعَالَى جَائِزَ الرُّؤْيَةِ فِي ذَاتِهِ، وَكَانَ تَعَالَى يَرَى نَفْسَهُ. وَكُلُّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ تَعَالَى جَائِزُ الرُّؤْيَةِ فِي نَفْسِهِ، قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَصَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّهُ جَائِزُ الرُّؤْيَةِ وَعَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَزِيدَ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ اخْتِصَارًا قُلْنَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْمُرَادُ مِنْهُ إِمَّا نَفْسُ الْبَصَرِ أَوِ الْمُبْصِرِ، وَعَلَى/ التَّقْدِيرَيْنِ: فَيَلْزَمُ كَوْنُهُ تَعَالَى مُبْصِرًا لِأَبْصَارِ نَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ مُبْصِرًا لِذَاتِ نَفْسِهِ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ أَنَّ لَفْظَ الْأَبْصارُ صِيغَةُ جَمْعٍ دَخَلَ عَلَيْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ فَهِيَ تُفِيدُ الِاسْتِغْرَاقَ فَقَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَرَاهُ جَمِيعُ الْأَبْصَارِ، فَهَذَا يُفِيدُ سَلْبَ الْعُمُومِ وَلَا يُفِيدُ عُمُومَ السَّلْبِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: تَخْصِيصُ هَذَا السَّلْبِ بِالْمَجْمُوعِ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي بَعْضِ أَفْرَادِ الْمَجْمُوعِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَالَ إِنَّ زَيْدًا مَا ضَرَبَهُ كُلُّ النَّاسِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّهُ ضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ.

فَإِذَا قِيلَ: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ مَا آمَنَ بِهِ كُلُّ النَّاسِ أَفَادَ أَنَّهُ آمَنَ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ مَعْنَاهُ: أَنَّهُ لَا تُدْرِكُهُ جَمِيعُ الْأَبْصَارِ، فَوَجَبَ أَنْ يُفِيدَ أَنَّهُ تُدْرِكُهُ بَعْضُ الْأَبْصَارِ. أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ: هَذَا تَمَسُّكٌ بِدَلِيلِ الْخِطَابِ. فَنَقُولُ: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ بِتَقْدِيرِ أَنْ لَا يَحْصُلُ الْإِدْرَاكُ لِأَحَدٍ الْبَتَّةَ كَانَ تَخْصِيصُ هَذَا السَّلْبِ بِالْمَجْمُوعِ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَجْمُوعٌ عَبَثًا، وَصَوْنُ كَلَامِ اللَّه تَعَالَى عَنِ الْعَبَثِ وَاجِبٌ.

<<  <  ج: ص:  >  >>