للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثُمَّ قَالَ: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يُنَازِعُونَكَ فِي دِينِكَ وَمَذْهَبِكَ غَيْرُ قَاطِعِينَ بِصِحَّةِ مَذَاهِبِهِمْ بَلْ لَا يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَهُمْ خَرَّاصُونَ كَذَّابُونَ فِي ادِّعَاءِ الْقَطْعِ وَكَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ يَقُولُونَ الْمُرَادُ مِنْ ذَلِكَ الظَّنِّ رُجُوعُهُمْ فِي إِثْبَاتِ مَذَاهِبِهِمْ إِلَى تَقْلِيدِ أَسْلَافِهِمْ لَا إِلَى تَعْلِيلٍ أَصْلًا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ فَقَالُوا رَأَيْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَالَغَ فِي ذَمِّ الْكُفَّارِ فِي كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِسَبَبِ كَوْنِهِمْ مُتَّبِعِينَ لِلظَّنِّ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُوجِبًا لِذَمِّ الْكُفَّارِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فِي أَقْصَى مَرَاتِبِ الذَّمِّ وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الظَّنِّ فَوَجَبَ كَوْنُهُ مَذْمُومًا مُحَرَّمًا لَا يُقَالُ لَمَّا وَرَدَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ بِكَوْنِهِ حُجَّةً كَانَ الْعَمَلُ بِهِ عَمَلًا بِدَلِيلٍ مَقْطُوعٍ لَا بِدَلِيلٍ مَظْنُونٍ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَدْفُوعٌ مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:

أَنَّ ذَلِكَ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَقْلِيًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ سَمْعِيًّا وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا مَجَالَ لَهُ فِي أَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ جَائِزٌ أَوْ غَيْرُ جَائِزٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يُنْكِرُ تَحْسِينَ الْعَقْلِ وَتَقْبِيحَهُ وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الدَّلِيلَ السَّمْعِيَّ إِنَّمَا يَكُونُ قَاطِعًا لَوْ كَانَ مُتَوَاتِرًا وَكَانَتْ أَلْفَاظُهُ غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ لِوَجْهٍ آخَرَ سِوَى هَذَا الْمَعْنَى الْوَاحِدِ وَلَوْ حَصَلَ مِثْلُ هَذَا الدَّلِيلِ لَعَلِمَ النَّاسُ بِالضَّرُورَةِ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً وَلَارْتَفَعَ الْخِلَافُ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَحَيْثُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ مَفْقُودٌ الثَّانِي: هَبْ أَنَّهُ وُجِدَ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ إِلَّا أَنَّ مَعَ ذَلِكَ لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ إِلَّا مَعَ اتِّبَاعِ الظَّنِّ وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْقِيَاسِ مَبْنِيٌّ عَلَى مَقَامَيْنِ الْأَوَّلُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّ الْوِفَاقِ مُعَلَّلٌ بِكَذَا وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ فَهَذَانِ الْمَقَامَانِ إِنْ كَانَا مَعْلُومَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ فَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقَلَاءِ فِي صِحَّتِهِ وَإِنْ كَانَ مَجْمُوعُهُمَا أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ظَنِّيًّا فَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ الْعَمَلُ/ بِهَذَا الْقِيَاسِ إِلَّا بِمُتَابَعَةِ الظَّنِّ وَحِينَئِذٍ يَنْدَرِجُ تَحْتَ النَّصِّ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الظَّنِّ مَذْمُومَةٌ.

وَالْجَوَابُ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الظَّنُّ عِبَارَةٌ عَنِ الِاعْتِقَادِ الرَّاجِحِ إِذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أَمَارَةٍ وَهُوَ مِثْلُ اعْتِقَادِ الْكُفَّارِ أَمَّا إِذَا كَانَ الِاعْتِقَادُ الرَّاجِحُ مُسْتَنِدًا إِلَى أَمَارَةٍ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَا يُسَمَّى ظَنًّا وَبِهَذَا الطَّرِيقِ سَقَطَ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّكَ بَعْدَ مَا عَرَفْتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُوَ وَأَنَّ الْبَاطِلَ مَا هُوَ فَلَا تَكُنْ فِي قَيْدِهِمْ بَلْ فَوِّضْ أَمْرَهُمْ إِلَى خَالِقِهِمْ لِأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَنَّ الْمُهْتَدِيَ مَنْ هُوَ؟ وَالضَّالَّ مَنْ هُوَ؟ فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَلِيقُ بِعَمَلِهِ وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ وَإِنْ أَظْهَرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمُ ادِّعَاءَ الْجَزْمِ وَالْيَقِينِ فَهُمْ كَاذِبُونَ وَاللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِأَحْوَالِ قُلُوبِهِمْ وَبَوَاطِنِهِمْ وَمُطَّلِعٌ عَلَى كَوْنِهِمْ مُتَحَيِّرِينَ فِي سَبِيلِ الضَّلَالِ تَائِهِينَ فِي أَوْدِيَةِ الْجَهْلِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ فِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ قَالَ بَعْضُهُمْ أَعْلَمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى يَعْلَمُ وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ مَنْ يضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين فان قيل فهذا يوجب وقوع التفاوت في علم الله تعالى وهو محال.

<<  <  ج: ص:  >  >>