للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَنْهُمْ عُذْرَهُمْ فِي كُلِّ مَا يُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِيَّاتِ فَيَقُولُونَ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نَكْفُرَ لَمَنَعَنَا عَنْ هَذَا الْكُفْرِ وَحَيْثُ لَمْ يَمْنَعْنَا عَنْهُ ثَبَتَ أَنَّهُ مُرِيدٌ لِذَلِكَ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنَّا امْتَنَعَ مِنَّا تَرْكُهُ فَكُنَّا مَعْذُورِينَ فِيهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ زَعَمُوا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ إِرَادَةِ الْكَائِنَاتِ مِنْ سَبْعَةِ أَوْجُهٍ:

فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنِ الْكُفَّارِ صَرِيحَ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مِنَّا أَنْ لَا نُشْرِكَ لَمْ نُشْرِكْ وَإِنَّمَا حَكَى عَنْهُمْ هَذَا الْقَوْلَ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ وَالتَّقْبِيحِ فَوَجَبَ كَوْنُ هَذَا الْمَذْهَبِ مَذْمُومًا بَاطِلًا.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: كَذَّبَ وَفِيهِ قِرَاءَتَانِ بِالتَّخْفِيفِ وَبِالتَّثْقِيلِ. أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّخْفِيفِ فَهِيَ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا فِي ذَلِكَ الْقَوْلِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَقُولُهُ الْمُجْبِرَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَذِبٌ. وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ فلا يمكن حملها على ان القول اسْتَوْجَبُوا الذَّمَّ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا أَهْلَ الْمَذَاهِبِ لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَيْهِ لَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى ضِدًّا لِمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ كَذَبَ بِالتَّخْفِيفِ وَحِينَئِذٍ تَصِيرُ إِحْدَى الْقِرَاءَتَيْنِ ضِدًّا لِلْقِرَاءَةِ الْأُخْرَى وَذَلِكَ يُوجِبُ دُخُولَ التَّنَاقُضِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ أَنْ كُلَّ مَنْ كَذَّبَ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ فَإِنَّهُ كَذَّبَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ يَقُولُ الْكُلُّ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا الَّذِي/ أَنَا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ إِنَّمَا حَصَلَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْهُ فَهَذَا طَرِيقٌ مُتَعَيِّنٌ لِكُلِّ الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ فِي تَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ وَفِي دَفْعِ دَعَوْتِهِمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَارَتِ الْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ مُؤَكِّدَةً لِلْقِرَاءَةِ بِالتَّخْفِيفِ وَيَصِيرُ مَجْمُوعُ الْقِرَاءَتَيْنِ دَالًّا عَلَى إِبْطَالِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى قَوْلِنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَوْجَبُوا الْوَعِيدَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَهَابِهِمْ إِلَى هذا المذهب.

الوجه الرَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا وَلَا شَكَّ أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَائِلِينَ بِهَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حُجَّةٌ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْمَذْهَبِ لِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَقًّا كَانَ الْقَوْلُ بِهِ عِلْمًا.

الْوَجْهُ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي سَائِرِ الْآيَاتِ: إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً [يونس: ٣٦] .

وَالْوَجْهُ السَّادِسُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وَالْخَرَصُ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَأَيْضًا قَالَ تَعَالَى:

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذَّارِيَاتِ: ١٠] .

وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وَتَقْرِيرُهُ: أَنَّهُمُ احْتَجُّوا فِي دَفْعِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِأَنْ قَالُوا: كُلُّ مَا حَصَلَ فَهُوَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا شَاءَ اللَّهُ مِنَّا ذَلِكَ فَكَيْفَ يُمْكِنُنَا تَرْكُهُ؟

وَإِذَا كُنَّا عَاجِزِينَ عَنْ تَرْكِهِ فَكَيْفَ يَأْمُرُنَا بِتَرْكِهِ؟ وَهَلْ فِي وُسْعِنَا وَطَاقَتِنَا أَنْ نَأْتِيَ بِفِعْلٍ عَلَى خِلَافِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَهَذَا هُوَ حُجَّةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ تَعَالَى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ وَذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>