للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: لِمَاذَا قَالَ: أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ.

قُلْنَا: إِنَّهُ مُنَزَّلٌ عَلَى الْكُلِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْكُلِّ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عُمُومَ الْقُرْآنِ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ تَعَالَى أَوْجَبَ مُتَابَعَتَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ الْقُرْآنِ وَلَمَّا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ امْتَنَعَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ وَإِلَّا لَزِمَ التَّنَاقُضُ.

فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْقِيَاسِ فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاعْتَبِرُوا [الْحَشْرِ: ٢] كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ.

قُلْنَا: هَبْ أَنَّهُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْآيَةُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ إِنَّمَا تَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمُثْبَتِ بِالْقِيَاسِ لَا ابْتِدَاءً بَلْ بِوَاسِطَةِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ. وَأَمَّا عُمُومُ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ ابْتِدَاءً لَا بِوَاسِطَةٍ وَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ كَانَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ ابْتِدَاءً أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْحُكْمِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ آخَرَ فَكَانَ التَّرْجِيحُ مِنْ جَانِبِنَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَالُوا مَعْنَاهُ وَلَا تَتَوَلَّوْا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَيَحْمِلُوكُمْ عَلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ وَالْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَتْبُوعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الشَّيْءَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ غَيْرَهُ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَهُوَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِهِ.

وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنِ اتِّبَاعِهِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ مَا يُغَايِرُ الْحُكْمَ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اتِّبَاعُهُ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ نُفَاةَ الْقِيَاسِ تَمَسَّكُوا بِهِ فِي نَفْيِ الْقِيَاسِ فَقَالُوا الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُتَابَعَةُ غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ مُتَابَعَةٌ لِغَيْرِ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجُوزَ.

فَإِنْ قَالُوا: لَمَّا دَلَّ قَوْلُهُ: فَاعْتَبِرُوا عَلَى الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ كَانَ الْعَمَلُ بِالْقِيَاسِ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْقِيَاسِ لَوْ كَانَ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَ تَارِكُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى الْقِيَاسِ كَافِرًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَةِ: ٤٤] وَحَيْثُ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى عَدَمِ التَّكْفِيرِ عَلِمْنَا أَنَّ الْعَمَلَ بِحُكْمِ الْقِيَاسِ لَيْسَ عَمَلًا بِمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَحِينَئِذٍ يَتِمُّ الدَّلِيلُ.

وَأَجَابَ عَنْهُ مُثْبِتُو الْقِيَاسِ: بِأَنَّ كَوْنَ الْقِيَاسِ حُجَّةً ثَبَتَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالْإِجْمَاعُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ الْعُمُومِ وَهُوَ دَلِيلٌ مَظْنُونٌ وَالْقَاطِعُ أَوْلَى مِنَ الْمَظْنُونِ.

وَأَجَابَ: الْأَوَّلُونَ بِأَنَّكُمْ أَثْبَتُّمْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ بِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاءِ:

١١٥] وَعُمُومِ قَوْلِهِ: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [الْبَقَرَةِ: ١٤٣] وَعُمُومِ قَوْلِهِ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آلِ عِمْرَانَ: ١١٠] وَبِعُمُومِ

قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى الضَّلَالَةِ»

وَعَلَى هَذَا فَإِثْبَاتُ كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً فَرْعٌ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْعُمُومَاتِ وَالْفَرْعُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنَ الْأَصْلِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>