للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فِي الْحَالِ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ لَا يُفِيدُ الْفَوْرَ لَمَا اسْتَوْجَبَ هَذَا الذَّمَّ بِتَرْكِ السُّجُودِ فِي الْحَالِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ طَلَبَ الدَّاعِيَ الَّذِي دَعَاهُ إِلَى تَرْكِ السُّجُودِ فَحَكَى تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ ذِكْرَ ذَلِكَ الدَّاعِي وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَمَعْنَاهُ: إِنَّ إِبْلِيسَ قَالَ إِنَّمَا لَمْ أَسْجُدْ لِآدَمَ لِأَنِّي خَيْرٌ مِنْهُ وَمَنْ كَانَ خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَمْرُ ذَلِكَ الْأَكْمَلِ بِالسُّجُودِ لِذَلِكَ الْأَدْوَنِ! ثُمَّ بَيَّنَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَهُوَ قَوْلُهُ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ بِأَنْ قَالَ: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَالنَّارُ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ وَالْمَخْلُوقُ مِنَ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ فَوَجَبَ كَوْنُ إِبْلِيسَ خَيْرًا مِنْ آدَمَ. أَمَّا بَيَانُ أَنَّ النَّارَ أَفْضَلُ مِنَ الطِّينِ فَلِأَنَّ النَّارَ مُشْرِقٌ عُلْوِيٌّ لطيف خفيف/ حار يابس مجاور لجواهر السموات مُلَاصِقٌ لَهَا وَالطِّينَ مُظْلِمٌ سُفْلِيٌّ كَثِيفٌ ثَقِيلٌ بارد يابس بعيد عن مجاورة السموات وَأَيْضًا فَالنَّارُ مُنَاسِبَةٌ لِلْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَهِيَ مَادَّةُ الْحَيَاةِ وَأَمَّا الْأَرْضِيَّةُ وَالْبَرَدُ وَالْيُبْسُ فَهُمَا مُنَاسِبَانِ الموت وَالْحَيَاةُ أَشْرَفُ مِنَ الْمَوْتِ وَأَيْضًا فَنُضْجُ الثِّمَارِ مُتَعَلِّقٌ بِالْحَرَارَةِ وَأَيْضًا فَسِنُّ النُّمُوِّ مِنَ النَّبَاتِ لَمَّا كَانَ وَقْتَ كَمَالِ الْحَرَارَةِ كَانَ غَايَةُ كَمَالِ الْحَيَوَانِ حَاصِلًا فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَأَمَّا وَقْتُ الشَّيْخُوخَةِ فَهُوَ وَقْتُ الْبَرْدِ وَالْيُبْسِ الْمُنَاسِبُ للارضية لَا جَرَمَ كَانَ هَذَا الْوَقْتُ أَرْدَأَ أَوْقَاتِ عُمُرِ الْإِنْسَانِ فَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْمَخْلُوقَ مِنَ الْأَفْضَلِ أَفْضَلُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ شَرَفَ الْأُصُولِ يُوجِبُ شرف الفروع. واما بيان ان الأشراف لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِخِدْمَةِ الْأَدْوَنِ فَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ أَنَّ مَنْ أَمَرَ أَبَا حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيَّ وَسَائِرَ أَكَابِرِ الْفُقَهَاءِ بِخِدْمَةِ فَقِيهٍ نَازِلِ الدَّرَجَةِ كَانَ ذَلِكَ قَبِيحًا فِي الْعُقُولِ فَهَذَا هُوَ تَقْرِيرٌ لِشُبْهَةِ إِبْلِيسَ.

فَنَقُولُ: هَذِهِ الشُّبْهَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ ثَلَاثَةٍ. أَوَّلُهَا: إِنَّ النَّارَ أَفْضَلُ مِنَ التُّرَابِ فَهَذَا قَدْ تَكَلَّمْنَا فِيهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَأَمَّا الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ أَنْ مَنْ كَانَتْ مَادَّتُهُ أَفْضَلَ فَصُورَتُهُ أَفْضَلُ فَهَذَا هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ وَالْبَحْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْفَضِيلَةُ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ ابْتِدَاءً لَمْ يَلْزَمْ مِنْ فَضِيلَةِ الْمَادَّةِ فَضِيلَةُ الصُّورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَخْرُجُ الْكَافِرُ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنُ مِنَ الْكَافِرِ وَالنُّورُ مِنَ الظُّلْمَةِ وَالظُّلْمَةُ مِنَ النُّورِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَضِيلَةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَا بِسَبَبِ فَضِيلَةِ الْأَصْلِ وَالْجَوْهَرِ وَأَيْضًا التَّكْلِيفُ إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْحَيَّ بَعْدَ انْتِهَائِهِ إِلَى حَدِّ كَمَالِ الْعَقْلِ فَالْمُعْتَبَرُ بِمَا انْتَهَى إِلَيْهِ لَا بِمَا خُلِقَ مِنْهُ وَأَيْضًا فَالْفَضْلُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْأَعْمَالِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا لَا بِسَبَبِ الْمَادَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَبَشِيَّ الْمُؤْمِنَ مُفَضَّلٌ عَلَى الْقُرَشِيِّ الْكَافِرِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: احْتَجَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ تَخْصِيصُ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا لَمَا اسْتَوْجَبَ إِبْلِيسُ هَذَا الذَّمَّ الشَّدِيدَ وَالتَّوْبِيخَ الْعَظِيمَ وَلَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ عُمُومِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَبَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ [الأعراف:

١١] خِطَابٌ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَلَائِكَةِ ثُمَّ إِنَّ إِبْلِيسَ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنَ النَّارِ وَالنَّارُ أَشْرَفُ مِنَ الطِّينِ وَمَنْ كَانَ أَصْلُهُ أَشْرَفَ فَهُوَ أَشْرَفُ فَيَلْزَمُ كَوْنُ إِبْلِيسَ أَشْرَفَ مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ كَانَ أَشْرَفَ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْمَرَ بِخِدْمَةِ الْأَدْوَنِ الْأَدْنَى. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ وَلَا مَعْنَى لِلْقِيَاسِ إِلَّا ذَلِكَ فَثَبَتَ أَنَّ إِبْلِيسَ مَا عَمِلَ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُ خَصَّصَ عُمُومَ قَوْلِهِ تَعَالَى/ لِلْمَلَائِكَةِ: اسْجُدُوا لِآدَمَ بِهَذَا الْقِيَاسِ فَلَوْ كَانَ تَخْصِيصُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ جَائِزًا لَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ إِبْلِيسُ الذَّمَّ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ وَحَيْثُ اسْتَحَقَّ الذَّمَّ الشَّدِيدَ عَلَيْهِ عَلِمْنَا أَنَّ تَخْصِيصَ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ لَا

<<  <  ج: ص:  >  >>