للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِأَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَفِيهِ وَجْهَانِ:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الَّذِي اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّهُ دِينُهُمْ تَلَاعَبُوا بِهِ وَمَا كَانُوا فِيهِ مُجِدِّينَ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ دِينًا لِأَنْفُسِهِمْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُرِيدُ الْمُسْتَهْزِئِينَ الْمُقْتَسِمِينَ. ثُمَّ قَالَ: وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَهُوَ مَجَازٌ لِأَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَا تَغُرُّ فِي الْحَقِيقَةِ بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُ حَصَلَ الْغُرُورُ عِنْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَطْمَعُ فِي طُولِ الْعُمُرِ وَحُسْنِ الْعَيْشِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ وَقُوَّةِ الْجَاهِ فَلِشِدَّةِ رَغْبَتِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِيرُ مَحْجُوبًا عَنْ طَلَبِ الدِّينِ غَرَقًا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا ثُمَّ لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى أُولَئِكَ الْكُفَّارَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ قَالَ: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا النِّسْيَانِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ النِّسْيَانَ هُوَ التَّرْكُ. وَالْمَعْنَى: نَتْرُكُهُمْ فِي عَذَابِهِمْ كَمَا تَرَكُوا الْعَمَلَ لِلِقَاءِ يَوْمِهِمْ هَذَا وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِ وَالْأَكْثَرِينَ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا أَيْ نُعَامِلُهُمْ مُعَامَلَةَ مَنْ نَسِيَ نَتْرُكُهُمْ فِي النَّارِ كَمَا فَعَلُوا هُمْ فِي الْإِعْرَاضِ بِآيَاتِنَا وَبِالْجُمْلَةِ فَسَمَّى اللَّهُ جَزَاءَ نِسْيَانِهِمْ بِالنِّسْيَانِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا النِّسْيَانِ أَنَّهُ لَا يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَلَا يَرْحَمُهُمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ هَذِهِ التَّشْدِيدَاتِ إِنَّمَا كَانَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا بآياتنا يجحدون وهذه الْآيَةِ لَطِيفَةٌ عَجِيبَةٌ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ كَانُوا كَافِرِينَ ثُمَّ بَيَّنَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا أَوَّلًا ثُمَّ لَعِبًا ثَانِيًا ثُمَّ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ثَالِثًا ثُمَّ صَارَ عَاقِبَةُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ وَالدَّرَجَاتِ أَنَّهُمْ جَحَدُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ الدُّنْيَا مَبْدَأُ كُلِّ آفَةٍ كَمَا

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ»

وَقَدْ يُؤَدِّي حُبُّ الدُّنْيَا إِلَى الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٢]]

وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا شَرَحَ أَحْوَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ وَأَهْلِ الْأَعْرَافِ ثُمَّ شَرَحَ الْكَلِمَاتِ الدَّائِرَةَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ سَمَاعُ تِلْكَ الْمُنَاظَرَاتِ حَامِلًا لِلْمُكَلَّفِ عَلَى الْحَذَرِ وَالِاحْتِرَازِ وَدَاعِيًا لَهُ إِلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بَيَّنَ شَرَفَ هَذَا الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَنِهَايَةَ مَنْفَعَتِهِ فَقَالَ: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ وَهُوَ الْقُرْآنُ فَصَّلْناهُ أَيْ مَيَّزْنَا بَعْضَهُ عَنْ بَعْضٍ تَمْيِيزًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ وَيُؤْمِنُ عَنِ الْغَلَطِ وَالْخَبْطِ فَأَمَّا قَوْلُهُ: عَلى عِلْمٍ فَالْمُرَادُ أَنَّ ذَلِكَ التَّفْصِيلَ وَالتَّمْيِيزَ إِنَّمَا حَصَلَ مَعَ الْعِلْمِ التَّامِّ بِمَا فِي كُلِّ فَصْلٍ مِنْ تِلْكَ الْفُصُولِ مِنَ الْفَوَائِدِ الْمُتَكَاثِرَةِ وَالْمَنَافِعِ الْمُتَزَايِدَةِ وَقَوْلُهُ: هُدىً وَرَحْمَةً قَالَ الزَّجَّاجُ: هُدىً فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ فَصَّلْنَاهُ هَادِيًا وَذَا رَحْمَةٍ وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جُعِلَ هُدًى لِقَوْمٍ مَخْصُوصِينَ وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَةِ: ٢] وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ: فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِالْعِلْمِ خِلَافًا لما يقوله المعتزلة من انه ليس اللَّه علم. واللَّه اعلم.

[[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٣]]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)

<<  <  ج: ص:  >  >>