للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مَنْصِبُ الرِّسَالَةِ وَلَعَلَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّ الَّذِي ظَنَّ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْوَحْيِ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْجُنُونِ وَالْعَتَهِ وَتَخْيِيلَاتِ الشَّيْطَانِ فَهَذَا هُوَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَجَامِعِ الْوُجُوهِ الَّتِي لِأَجْلِهَا أَنْكَرَ الْكُفَّارُ رِسَالَةَ رَجُلٍ مُعَيَّنٍ فَلِهَذِهِ الْأَسْبَابِ حَكَمُوا عَلَى نُوحٍ بِالضَّلَالَةِ ثُمَّ إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَزَالَ تَعَجُّبَهُمْ وَقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْخَلْقِ فَلَهُ بِحُكْمِ الْإِلَهِيَّةِ أَنْ يَأْمُرَ عَبِيدَهُ بِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ بَعْضِهَا وَلَا يَجُوزَ أَنْ يُخَاطِبَهُمْ بِتِلْكَ التَّكَالِيفِ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْإِلْجَاءِ وَهُوَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الرَّسُولُ وَاحِدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَامِ: ٩] فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ إِيصَالُ تِلْكَ التَّكَالِيفِ إِلَى الْخَلْقِ بِوَاسِطَةِ إِنْسَانٍ وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ إِنَّمَا يُبَلِّغُهُمْ تِلْكَ التَّكَالِيفَ لِأَجْلِ أَنْ يُنْذِرَهُمْ وَيُحَذِّرَهُمْ وَمَتَى أَنْذَرَهُمُ اتَّقَوْا مُخَالَفَةَ تَكْلِيفِ اللَّهِ وَمَتَى اتَّقَوْا مُخَالَفَةَ تَكْلِيفِ اللَّهِ اسْتَوْجَبُوا رَحْمَةَ اللَّهِ فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلْنَرْجِعْ إِلَى تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ.

أَمَّا قَوْلُهُ: أَوَعَجِبْتُمْ فَالْهَمْزَةُ لِلْإِنْكَارِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ كَأَنَّهُ قِيلَ: أَكَذَّبْتُمْ وَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ؟ أَيْ عَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ. وَذَكَرُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الذِّكْرِ وُجُوهًا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُ الْوَحْيُ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِهَذَا الذِّكْرِ الْمُعْجِزُ ثُمَّ ذَلِكَ الْمُعْجِزُ يَحْتَمِلُ/ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا وَكَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مُعْجِزًا فَسَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرًا كَمَا سَمَّى الْقُرْآنَ بِهَذَا الِاسْمِ وَجَعَلَهُ مُعْجِزَةً لِمُحَمَّدٍ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) . وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْجِزَ كَانَ شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْكِتَابِ. وقوله: عَلى رَجُلٍ قال الفراء: عَلى هاهنا بِمَعْنَى مَعَ كَمَا تَقُولُ: جَاءَ بِالْخَبَرِ عَلَى وَجْهِهِ وَمَعَ وَجْهِهِ كِلَاهُمَا جَائِزٌ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ:

أَيْ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ مِنْكُمْ كَمَا قَالَ: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٤] أَيْ عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ. وَقَالَ آخَرُونَ: ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ مُنَزَّلٌ عَلَى رَجُلٍ وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ أَيْ تَعْرِفُونَ نَسَبَهُ فَهُوَ مِنْكُمْ نَسَبًا وَذَلِكَ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْهُمْ يُزِيلُ التَّعَجُّبَ لِأَنَّ الْمَرْءَ بِمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ أَعْرَفُ وَبِطَهَارَةِ أَحْوَالِهِ أَعْلَمُ وَبِمَا يَقْتَضِي السُّكُونُ إِلَيْهِ أَبْصَرُ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى مَا لِأَجْلِهِ يُبْعَثُ الرَّسُولُ فَقَالَ: لِيُنْذِرَكُمْ وَمَا لِأَجْلِهِ يُنْذِرُ فَقَالَ:

وَلِتَتَّقُوا وَمَا لِأَجْلِهِ يَتَّقُونَ فَقَالَ: وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَهَذَا التَّرْتِيبُ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْبِعْثَةِ الْإِنْذَارُ وَالْمَقْصُودَ مِنَ الْإِنْذَارِ التَّقْوَى عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي وَالْمَقْصُودَ مِنَ التَّقْوَى الْفَوْزُ بِالرَّحْمَةِ فِي دَارِ الْآخِرَةِ. قَالَ الْجُبَّائِيُّ وَالْكَعْبِيُّ وَالْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنَ الَّذِينَ بَعَثَ الرُّسُلَ إِلَيْهِمُ التَّقْوَى وَالْفَوْزَ بِالرَّحْمَةِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَرَادَ مِنْ بَعْضِهِمُ الْكُفْرَ وَالْعِنَادَ وَخَلَقَهُمْ لِأَجْلِ الْعَذَابِ وَالنَّارِ.

وَجَوَابُ أَصْحَابِنَا أَنْ نَقُولَ: إِنْ لَمْ يَتَوَقَّفِ الْفِعْلُ عَلَى الدَّاعِي لَزِمَ رُجْحَانُ الْمُمْكِنِ لَا لِمُرَجِّحٍ وَإِنْ تَوَقَّفَ لَزِمَ الْجَبْرُ وَمَتَى لَزِمَ ذَلِكَ وجب القطع فانه تَعَالَى أَرَادَ الْكُفْرَ مِنَ الْكَافِرِ وَذَلِكَ يُبْطِلُ مَذْهَبَكُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ كَذَّبُوهُ فِي ادِّعَاءِ النُّبُوَّةِ وَتَبْلِيغِ التَّكَالِيفِ مِنَ اللَّهِ وَأَصَرُّوا عَلَى ذَلِكَ التَّكْذِيبِ ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَنْجَاهُ فِي الْفُلْكِ وَأَنْجَى مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَغْرَقَ الْكُفَّارَ وَالْمُكَذِّبِينَ وَبَيَّنَ الْعِلَّةَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَمِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْ مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ رَجُلٌ عَمٍ فِي الْبَصِيرَةِ وَأَعْمَى فِي البصر فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ [الْقَصَصِ: ٦٦] وَقَالَ: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>