للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إلى قوله كافِرُونَ] اعْلَمْ أَنَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَلَأَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ تَمْتَلِئُ الْقُلُوبُ مِنْ هَيْبَتِهِمْ، وَمَعْنَى الْآيَةِ قَالَ الْمَلَأُ وَهُمُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينِ اسْتُضْعِفُوا، يُرِيدُ الْمَسَاكِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ، وَقَوْلُهُ: لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِأَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ وَصَفَ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ بِكَوْنِهِمْ مُسْتَكْبِرِينَ، وَوَصَفَ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ بِكَوْنِهِمْ مُسْتَضْعَفِينَ، وَكَوْنُهُمْ مُسْتَكْبِرِينَ فِعْلٌ اسْتَوْجَبُوا بِهِ الذَّمَّ، وَكَوْنُ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَضْعَفِينَ مَعْنَاهُ: أَنَّ غَيْرَهُمْ يَسْتَضْعِفُهُمْ وَيَسْتَحْقِرُهُمْ، وَهَذَا لَيْسَ فِعْلًا صَادِرًا عَنْهُمْ بَلْ عَنْ غَيْرِهِمْ، فَهُوَ لَا يَكُونُ صفة ذم حَقِّهِمْ، بَلِ الذَّمُّ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ يَسْتَحْقِرُونَهُمْ وَيَسْتَضْعِفُونَهُمْ. ثُمَّ حَكَى تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُسْتَكْبِرِينَ سألوا المستضعفين عن حال صالح فقال المتضعفون نَحْنُ مُوقِنُونَ مُصَدِّقُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ. وَقَالَ الْمُسْتَكْبِرُونَ: بَلْ نَحْنُ كَافِرُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ صَالِحٌ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يُحْتَجُّ بِهِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْفَقْرَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِكْبَارَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَالِ وَالْجَاهِ، وَالِاسْتِضْعَافُ إِنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ قِلَّتِهِمَا، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّمَرُّدِ، وَالْإِبَاءِ، وَالْإِنْكَارِ، وَالْكُفْرِ، وَقِلَّةَ الْمَالِ وَالْجَاهِ حَمَلَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالِانْقِيَادِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْعَقْرُ عِنْدَ الْعَرَبِ، كَشْفُ عُرْقُوبِ الْبَعِيرِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَقْرُ سَبَبًا لِلنَّحْرِ أُطْلِقَ الْعَقْرُ عَلَى النَّحْرِ إِطْلَاقًا لِاسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ أَسْنَدَ الْعَقْرَ إِلَى جَمِيعِهِمْ، لِأَنَّهُ كَانَ بِرِضَاهُمْ مَعَ أَنَّهُ مَا بَاشَرَهُ إِلَّا بَعْضُهُمْ، وَقَدْ يُقَالُ لِلْقَبِيلَةِ الْعَظِيمَةِ: أَنْتُمْ فَعَلْتُمْ كَذَا مَعَ أَنَّهُ مَا فَعَلَهُ إِلَّا وَاحِدٌ مِنْهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يُقَالُ: عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا، إِذَا اسْتَكْبَرَ. وَمِنْهُ يُقَالُ: جَبَّارٌ عَاتٍ قَالَ مُجَاهِدٌ:

الْعُتُوُّ الْغُلُوُّ فِي الْبَاطِلِ وَفِي قَوْلِهِ: عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: مَعْنَاهُ اسْتَكْبَرُوا عَنِ امْتِثَالِ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَذَلِكَ الْأَمْرُ هُوَ الَّذِي أَوْصَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ صَالِحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ [الأعراف: ٧٣] الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَصَدَرَ عُتُوُّهُمْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ، فَكَأَنَّ أَمْرَ رَبِّهِمْ بِتَرْكِهَا صَارَ سَبَبًا فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى ذَلِكَ الْعُتُوِّ، كَمَا يقال: الممنوع متبوع وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِكَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُكَذِّبِينَ لَهُ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنَ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: هِيَ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ. قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا [الْمُزَّمِّلُ: ١٤] قَالَ اللَّيْثُ: يُقَالُ رَجَفَ الشَّيْءُ يَرْجُفُ رَجْفًا وَرَجَفَانًا كَرَجَفَانِ الْبَعِيرِ تَحْتَ الرَّحْلِ، وَكَمَا يَرْجُفُ الشَّجَرُ إِذَا أَرْجَفَتْهُ الرِّيحُ.

ثُمَّ قَالَ: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ يَعْنِي فِي بَلَدِهِمْ وَلِذَلِكَ وَحَّدَ الدَّارَ كما يقول: دَارُ الْحَرْبِ وَمَرَرْتُ بِدَارِ الْبَزَّازِينَ، وَجَمَعَ فِي آيَةٍ أُخْرَى فَقَالَ: فِي دِيارِهِمْ [هُودٍ: ٩٤] لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالدَّارِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِ الْخَاصِّ بِهِ. وَقَوْلُهُ: جاثِمِينَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْجُثُومُ لِلنَّاسِ وَالطَّيْرِ، بِمَنْزِلَةِ الْبُرُوكِ لِلْإِبِلِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>