للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نُزُولًا بِالرِّيفِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: كَانَتْ تِلْكَ الْأَصْنَامُ تَمَاثِيلَ بَقَرٍ وَذَلِكَ أَوَّلُ بَيَانِ قِصَّةِ الْعِجْلِ.

ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يَقُولَ:

الْعَاقِلُ لِمُوسَى: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ وَخَالِقًا وَمُدَبِّرًا لِأَنَّ الَّذِي يَحْصُلُ بِجَعْلِ مُوسَى وَتَقْدِيرُهُ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ خَالِقًا لِلْعَالَمِ وَمُدَبِّرًا لَهُ وَمَنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الْعَقْلِ وَالْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُعَيِّنَ لَهُمْ أَصْنَامًا وَتَمَاثِيلَ يَتَقَرَّبُونَ بِعِبَادَتِهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي حَكَاهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ حَيْثُ قَالُوا: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزُّمَرِ: ٣] .

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لِمَ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ كُفْرًا؟ فَنَقُولُ: أَجْمَعَ كُلُّ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى كُفْرٌ سَوَاءٌ اعْتَقَدَ فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ كَوْنَهُ إِلَهًا لِلْعَالَمِ أَوِ اعْتَقَدُوا فِيهِ أَنَّ عِبَادَتَهُ تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْعِبَادَةَ نِهَايَةُ التَّعْظِيمِ وَنِهَايَةُ التَّعْظِيمِ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ نِهَايَةُ الْإِنْعَامِ وَالْإِكْرَامِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَذَا الْقَوْلُ صَدَرَ مِنْ كُلِّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَوْ مِنْ بَعْضِهِمْ؟

قُلْنَا: بَلْ مِنْ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ السَّبْعُونَ الْمُخْتَارُونَ وَكَانَ فِيهِمْ مَنْ يَرْتَفِعُ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ الْبَاطِلِ.

ثُمَّ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَجَابَهُمْ فَقَالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْجَهْلِ مَا ذُكِرَ أَنَّ الْعِبَادَةَ غَايَةُ التَّعْظِيمِ فَلَا تَلِيقُ إِلَّا بِمَنْ يَصْدُرُ عَنْهُ غَايَةُ الْإِنْعَامِ وَهِيَ بِخَلْقِ الْجِسْمِ وَالْحَيَاةِ وَالشَّهْوَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ وَخَلْقِ الْأَشْيَاءِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا وَالْقَادِرُ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى فَوَجَبَ أَنْ لَا تَلِيقَ الْعِبَادَةُ إِلَّا بِهِ.

فَإِنْ قَالُوا: إِذَا كَانَ مُرَادُهُمْ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الْأَصْنَامِ التَّقَرُّبَ بِهَا إِلَى تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا الْوَجْهُ فِي قُبْحِ هَذِهِ الْعِبَادَةِ؟

قُلْنَا: فَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: لَمْ يَتَّخِذُوهَا آلِهَةً أَصْلًا وَإِنَّمَا جَعَلُوهَا كَالْقِبْلَةِ وَذَلِكَ يُنَافِي قَوْلَهُمْ: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ وَاعْلَمْ أَنَّ (مَا) فِي قَوْلِهِ: كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ كَمَا ثَبَتَ لَهُمْ آلِهَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً وَفِي قَوْلِهِمْ: لَهُمْ ضَمِيرٌ يعود اليه وآلِهَةٌ بَدَلٌ مِنْ ذَلِكَ الضَّمِيرِ تَقْدِيرُهُ:

كَالَّذِي هُوَ لَهُمْ آلِهَةٌ.

ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ قَالَ اللَّيْثُ: التَّبَارُ الْهَلَاكُ.

يُقَالُ: تَبِرَ الشَّيْءُ يَتْبَرُ تَبَارًا وَالتَّتْبِيرُ الْإِهْلَاكُ، ومنه قوله تعالى: تَبَّرْنا تَتْبِيراً وَيُقَالُ لِلذَّهَبِ الْمُنْكَسِرِ الْمُتَفَتِّتِ:

التِّبْرُ فَقَوْلُهُ: مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ أَيْ مُهْلَكٌ مُدَمَّرٌ وَقَوْلُهُ: وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قِيلَ: الْبُطْلَانُ عَدَمُ الشَّيْءِ إِمَّا بِعَدَمِ ذَاتِهِ أَوْ بِعَدَمِ فَائِدَتِهِ وَمَقْصُودِهِ وَالْمُرَادُ مِنْ بُطْلَانِ عَمَلِهِمْ: أَنَّهُ لَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ نَفْعٌ وَلَا دَفْعُ ضَرَرٍ وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِبَادَةِ أَنْ تَصِيرَ الْمُوَاظَبَةُ على تلك الأعمال سببا الاستحكام ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْقَلْبِ حَتَّى تَصِيرَ تِلْكَ الرُّوحُ سَعِيدَةً بِحُصُولِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ فِيهَا. فَإِذَا اشْتَغَلَ الْإِنْسَانُ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ سَبَبًا لِإِعْرَاضِ الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا ظَهَرَ هَذَا التَّحْقِيقُ ظَهَرَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ مُتَبَّرٌ وَبَاطِلٌ وَضَائِعٌ وَسَعْيٌ فِي تَحْصِيلِ ضِدِّ هَذَا الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>