للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمُتَضَادَّتَيْنِ جَارِيًا مَجْرَى الْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَجَارٍ مَجْرَى الْمُعْجِزَاتِ.

الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَعْتَهُ وَصِحَّةَ نُبُوَّتِهِ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَكْتُوبًا لَكَانَ ذِكْرُ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُنَفِّرَاتِ لليهود النصارى عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ، لِأَنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الْكَذِبِ والبهتان من أعظم النفرات، وَالْعَاقِلُ لَا يَسْعَى فِيمَا يُوجِبُ نُقْصَانَ حَالِهِ، وَيُنَفِّرُ النَّاسَ عَنْ قَبُولِ قَوْلِهِ: فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النَّعْتَ كَانَ مَذْكُورًا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّتِهِ.

الصِّفَةُ الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ اسْتِئْنَافًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ أَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَأَقُولُ مَجَامِعُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ مَحْصُورَةٌ فِي

قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه»

وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ إِمَّا وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَإِمَّا مُمْكِنُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ. أَمَّا الْوَاجِبُ لِذَاتِهِ فَهُوَ اللَّه جَلَّ جَلَالُهُ، وَلَا مَعْرُوفَ أَشْرَفُ مِنْ تَعْظِيمِهِ وَإِظْهَارِ عُبُودِيَّتِهِ وَإِظْهَارِ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ عَلَى بَابِ عِزَّتِهِ وَالِاعْتِرَافِ بِكَوْنِهِ مَوْصُوفًا بِصِفَاتِ الْكَمَالِ مُبَرَّأً عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ مُنَزَّهًا عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ، وَأَمَّا الْمُمْكِنُ لِذَاتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَيَوَانًا، فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ إِلَيْهِ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ مَشْرُوطٌ بالحياة، ومع هذا فإن يَجِبُ النَّظَرُ إِلَى كُلِّهَا بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَخْلُوقَةٌ للَّه تَعَالَى، وَمِنْ حَيْثُ إِنَّ كُلَّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْمَخْلُوقَاتِ لَمَّا كَانَتْ دَلِيلًا قَاهِرًا وَبُرْهَانًا بَاهِرًا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَتَنْزِيهِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ النَّظَرُ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ. ومن حيث أن اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ ذَرَّةٍ مِنْ ذَرَّاتِ الْمَخْلُوقَاتِ أسراراً عجيبة وحكماً خفية فيحب النَّظَرُ إِلَيْهَا بِعَيْنِ الِاحْتِرَامِ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ مِنْ جِنْسِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ يَجِبُ إِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ بِأَقْصَى مَا يَقْدِرُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةُ الْأَرْحَامِ وَبَثُّ الْمَعْرُوفِ فَثَبَتَ أَنَّ

قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّه»

كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ جِهَاتِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ.

الصِّفَةُ السَّادِسَةُ: قَوْلُهُ: وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَضْدَادُ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ، وَالْقَوْلُ فِي صِفَاتِ اللَّه بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْكُفْرُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه عَلَى النَّبِيِّينَ، وَقَطْعُ الرَّحِمِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ.

الصِّفَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ مِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ بِالطَّيِّبَاتِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي حَكَمَ اللَّه بِحِلِّهَا وَهَذَا بِعِيدٌ لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تصير الآية ويحل لهم المحللات وهذ مَحْضُ التَّكْرِيرِ. الثَّانِي: أَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ تَخْرُجُ الْآيَةُ عَنِ الْفَائِدَةِ، لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَنَّ الْأَشْيَاءَ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّه مَا هِيَ وَكَمْ هِيَ؟ بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الْأَشْيَاءَ الْمُسْتَطَابَةَ بِحَسَبِ الطَّبْعِ وَذَلِكَ لِأَنَّ تَنَاوُلَهَا يُفِيدُ اللَّذَّةَ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَنَافِعِ الْحِلُّ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ مَا تَسْتَطِيبُهُ النَّفْسُ وَيَسْتَلِذُّهُ الطَّبْعُ الْحِلُّ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ.

الصِّفَةُ الثَّامِنَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يُرِيدُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِلَى قَوْلِهِ: ذلِكُمْ فِسْقٌ وَأَقُولُ: كُلُّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ وَتَسْتَقْذِرُهُ النَّفْسُ كَانَ تَنَاوُلُهُ سَبَبًا لِلْأَلَمِ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَكَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَخْبِثُهُ الطَّبْعُ فَالْأَصْلُ فِيهِ/ الْحُرْمَةُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ: فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّه تَحْرِيمَ بَيْعِ الْكَلْبِ، لِأَنَّهُ

رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه سلم

<<  <  ج: ص:  >  >>