للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْبَحْثُ الثَّانِي: الْمَعْذِرَةُ مَصْدَرٌ كَالْعُذْرِ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: عَذَرْتُهُ أَعْذُرُهُ عُذْرًا وَمَعْذِرَةً، وَمَعْنَى عَذَرَهُ فِي اللُّغَةِ أَيْ قَامَ بِعُذْرِهِ، وَقِيلَ: عُذْرُهُ، يُقَالُ: مَنْ يَعْذُرُنِي أَيْ يَقُومُ بِعُذْرِي، وَعَذَرْتُ فُلَانًا فِيمَا صَنَعَ أَيْ قُمْتُ بِعُذْرِهِ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أَيْ قِيَامٌ مِنَّا بِعُذْرِ أَنْفُسِنَا إِلَى اللَّه تَعَالَى، فَإِنَّا إِذَا طَوَّلْنَا بِإِقَامَةِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.

قُلْنَا: قَدْ فَعَلْنَا فَنَكُونُ بِذَلِكَ مَعْذُورِينَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْمَعْذِرَةُ اسْمٌ عَلَى مَفْعِلَةٍ مِنْ عَذَرَ يَعْذُرُ وَأُقِيمَ مُقَامَ الِاعْتِذَارِ. كَأَنَّهُمْ قَالُوا: مَوْعِظَتُنَا اعْتِذَارٌ إِلَى رَبِّنَا. فَأُقِيمَ الِاسْمُ مُقَامَ الِاعْتِذَارِ، وَيُقَالُ: اعْتَذَرَ فُلَانٌ اعْتِذَارًا وَعُذْرًا وَمَعْذِرَةً مِنْ ذَنْبِهِ فَعَذَرْتُهُ، وَقَوْلُهُ: وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَيْ وَجَائِزٌ عِنْدَنَا أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَذَا الْوَعْظِ فَيَتَّقُوا اللَّه وَيَتْرُكُوا هَذَا الذَّنْبَ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ مِنْهُمْ مَنْ صَادَ السَّمَكَ وَأَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي صَارُوا قِسْمَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ وَعَظَ الْفِرْقَةَ الْمُذْنِبَةَ، وَزَجَرَهُمْ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ الْوَعْظِ، وأنكروا على الواعظين وقالوا لهم: لم تعظوهم، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ/ اللَّه مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ؟ يَعْنِي:

أَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوا فِي الْإِصْرَارِ عَلَى هَذَا الذَّنْبِ إِلَى حَدٍّ لَا يَكَادُونَ يُمْنَعُونَ عَنْهُ، فَصَارَ هَذَا الْوَعْظُ عَدِيمَ الْفَائِدَةِ عَدِيمَ الْأَثَرِ، فَوَجَبَ تَرْكُهُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ أَهْلَ الْقَرْيَةِ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ: فِرْقَةٌ أَقْدَمَتْ عَلَى الذَّنْبِ، وَفِرْقَةٌ أَحْجَمُوا عَنْهُ وَوَعَظُوا الْأَوَّلِينَ، فَلَمَّا اشْتَغَلَتْ هَذِهِ الْفِرْقَةُ بِوَعْظِ الْفِرْقَةِ الْمُذْنِبَةِ الْمُتَعَدِّيَةِ الْمُقْدِمَةِ عَلَى الْقَبِيحِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَتِ الْفِرْقَةُ الْمُذْنِبَةُ لِلْفِرْقَةِ الْوَاعِظَةِ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ بِزَعْمِكُمْ؟ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا فِرْقَتَيْنِ وَكَانَ قَوْلُهُ: مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ خِطَابًا مِنَ الْفِرْقَةِ النَّاهِيَةِ لِلْفِرْقَةِ الْمُعْتَدِيَةِ لَقَالُوا:

(وَلَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .

أَمَّا قَوْلُهُ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ يَعْنِي: أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا مَا ذَكَّرَهُمْ بِهِ الصَّالِحُونَ تَرْكَ النَّاسِي لِمَا يَنْسَاهُ، أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الظَّالِمِينَ الْمُقْدِمِينَ عَلَى فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُتَعَدِّيَةَ هَلَكَتْ، وَالْفِرْقَةَ النَّاهِيَةَ عَنِ الْمُنْكَرِ نَجَتْ. أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّهُمْ مِنْ أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ كَانُوا؟ فَنُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ. وَنُقِلَ عَنْهُ أَيْضًا: هَلَكَتِ الْفِرْقَتَانِ وَنَجَتِ النَّاهِيَةُ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ بَكَى وَقَالَ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَكَتُوا عَنِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ هَلَكُوا، وَنَحْنُ نَرَى أَشْيَاءَ نُنْكِرُهَا، ثُمَّ نَسْكُتُ وَلَا نَقُولُ شَيْئًا. قَالَ الْحَسَنُ: الْفِرْقَةُ السَّاكِتَةُ نَاجِيَةٌ، فَعَلَى هَذَا نَجَتْ فِرْقَتَانِ وَهَلَكَتِ الثَّالِثَةُ. وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ عَلَيْهِمْ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ، وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا تَرَكُوا وَعْظَهُمْ لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ لَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى ذَلِكَ الْوَعْظِ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ تَرْكَ الْوَعْظِ مَعْصِيَةٌ، وَالنَّهْيَ عَنْهُ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ، فَوَجَبَ دُخُولُ هَؤُلَاءِ التَّارِكِينَ لِلْوَعْظِ النَّاهِينَ عَنْهُ تَحْتَ قَوْلِهِ: وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا.

<<  <  ج: ص:  >  >>