للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لِكَوْنِهِمَا صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ، وَمَرَّةً عَبَّرَ عَنْهُمَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.

الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ سَلَّمْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما عَائِدٌ إِلَى آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، إِلَّا أَنَّهُ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا آتَاهُمَا الْوَلَدَ الصَّالِحَ عَزَمَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَاهُ وَقْفًا عَلَى خِدْمَةِ اللَّه وَطَاعَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَتَارَةً كَانُوا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا، وَتَارَةً كَانُوا يَأْمُرُونَهُ بِخِدْمَةِ اللَّه وَطَاعَتِهِ. وَهَذَا الْعَمَلُ وَإِنْ كَانَ مِنَّا قُرْبَةً وَطَاعَةً، إِلَّا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، فَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا

نُقِلَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ حَاكِيًا عَنِ اللَّه سُبْحَانَهُ: «أَنَا أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرْكُتُهُ وَشِرْكَهُ»

وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْإِشْكَالُ زَائِلٌ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: فِي التَّأْوِيلِ أَنْ نَقُولَ: سَلَّمْنَا صِحَّةَ تِلْكَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، إلا أنا نقول: إنهم سموا بعيد الحرث لِأَجْلِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الْآفَةِ وَالْمَرَضِ بِسَبَبِ دُعَاءِ ذَلِكَ الشَّخْصِ الْمُسَمَّى بالحرث، وَقَدْ يُسَمَّى الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ عَبْدًا لِلْمُنْعِمِ. يُقَالُ فِي الْمَثَلِ: أَنَا عَبْدُ مَنْ تَعَلَّمْتُ مِنْهُ حَرْفًا، وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْأَفَاضِلِ كَتَبَ عَلَى عُنْوَانٍ: كِتَابَةُ عَبْدِ وُدِّهِ فُلَانٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:

وَإِنِّي لَعَبْدُ الضَّيْفِ مَا دَامَ ثَاوِيًا ... وَلَا شِيمَةَ لِي بَعْدَهَا تُشْبِهُ الْعَبْدَا

فَآدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السلام سميا ذلك الولد بعبد الحرث تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كَوْنِهِ عَبْدَ اللَّه مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ مَمْلُوكُهُ وَمَخْلُوقُهُ، إِلَّا أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ حَسَنَاتِ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ فَلَمَّا حَصَلَ الِاشْتِرَاكُ فِي لَفْظِ الْعَبْدِ لَا جَرَمَ صَارَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعَاتَبًا فِي هَذَا الْعَمَلِ بِسَبَبِ الِاشْتِرَاكِ الْحَاصِلِ فِي مُجَرَّدِ لَفْظِ الْعَبْدِ، فَهَذَا جُمْلَةُ مَا نَقُولُهُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ أَلْفَاظِ الْآيَةِ وَفِيهَا مَبَاحِثُ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ المشهور أنها نفس آدم وقوله: / خَلَقَ مِنْها زَوْجَها الْمُرَادُ حَوَّاءُ. قَالُوا وَمَعْنَى كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً مِنْ نَفْسِ آدَمَ، أَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَهَا مِنْ ضِلْعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ.

قَالُوا: وَالْحِكْمَةُ فِيهِ أَنَّ الْجِنْسَ إِلَى الْجِنْسِ أَمْيَلُ، وَالْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ، وَأَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ مُشْكِلٌ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ ابْتِدَاءً فَمَا الَّذِي حَمَلَنَا عَلَى أَنْ نَقُولَ إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ جُزْءٍ أَجْزَاءِ آدَمَ؟ وَلِمَ لَا نَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ حَوَّاءَ أَيْضًا ابْتِدَاءً؟ وَأَيْضًا الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ إِنْسَانٍ مِنْ عَظْمِ وَاحِدٍ فَلِمَ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِهِ ابْتِدَاءً، وَأَيْضًا الَّذِي يُقَالُ: إِنَّ عَدَدَ أَضْلَاعِ الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ أَنْقَصُ مِنْ عَدَدِ أَضْلَاعِ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ فِيهِ مُؤَاخَذَةٌ تُنْبِي عَنْ خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّشْرِيحِ. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِذًا لَمْ نَقُلَ بِذَلِكَ، فَمَا الْمُرَادُ من كلمة (من) في قوله: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها فَنَقُولُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِشَارَةَ إلى الشيء تارة تكون بِحَسَبِ شَخْصِهِ، وَأُخْرَى بِحَسَبِ نَوْعِهِ

قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّه الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ»

وَلَيْسَ الْمُرَادُ ذَلِكَ الْفَرْدَ الْمُعَيَّنَ بَلِ الْمُرَادُ ذَلِكَ النَّوْعُ.

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ هَذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي أَظْهَرَ اللَّه فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ»

وَالْمُرَادُ خَلَقَ مِنَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ زَوْجَةَ آدَمَ، وَالْمَقْصُودُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ زَوْجَ آدَمَ إِنْسَانًا مِثْلَهُ قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَغَشَّاها أَيْ جَامَعَهَا، وَالْغِشْيَانُ إِتْيَانُ الرَّجُلِ الْمَرْأَةَ وَقَدْ غَشَّاهَا وَتَغَشَّاهَا إِذَا عَلَاهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا عَلَاهَا فَقَدْ صَارَ كَالْغَاشِيَةِ لَهَا، وَمِثْلُهُ يُجَلِّلُهَا، وَهُوَ يُشْبِهُ التَّغَطِّيَ وَاللُّبْسَ. قَالَ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ

<<  <  ج: ص:  >  >>