للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنْ يَمَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَهَذَا الْمَسُّ يَكُونُ لَا مَحَالَةَ أَبْلَغَ مِنَ النَّزْغِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ طَيْفٌ بِغَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ طائِفٌ بِالْأَلِفِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّه: اخْتَلَفُوا فِي الطَّيْفِ فَقِيلَ إنه مصدر، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ يُقَالُ: طَافَ يَطُوفُ طَوْفَا وَطَوَافًا إِذَا أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ. وَأَطَافَ يُطِيفُ إِطَافَةً إِذَا جَعَلَ يَسْتَدِيرُ بِالْقَوْمِ وَيَأْتِيهِمْ مِنْ نَوَاحِيهِمْ، وَطَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ طَيْفًا إِذَا أَلَمَّ فِي الْمَنَامِ. قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ طَيْفٌ أَصْلُهُ طَيِّفٌ. إِلَّا أَنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوا التَّشْدِيدَ، فَحَذَفُوا إِحْدَى الْيَاءَيْنِ وَأَبْقَوْا يَاءً سَاكِنَةً، فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ مَصْدَرٌ، وَعَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ هُوَ مِنْ بَابٍ هَيْنٍ وَهَيِّنٍ وَمَيْتٍ وَمَيِّتٍ، وَيَشْهَدُ لِصِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ الْأَنْبَارِيِّ قِرَاءَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ إِذَا مَسَّهُمْ طَيِّفٌ بِالتَّشْدِيدِ. هَذَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الطَّيْفِ، ثُمَّ سُمِّيَ الْجُنُونُ وَالْغَضَبُ وَالْوَسْوَسَةُ طَيْفًا، لِأَنَّهُ لَمَّةٌ مِنْ لَمَّةِ الشَّيْطَانِ تُشْبِهُ لَمَّةَ الْخَيَالِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ:

الطَّيْفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْجُنُونُ، ثُمَّ قِيلَ لِلْغَضَبِ طَيْفٌ، لِأَنَّ الْغَضْبَانَ يُشْبِهُ الْمَجْنُونَ. وَأَمَّا الطَّائِفُ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الطَّيْفِ، مِثْلَ الْعَافِيَةِ وَالْعَاقِبَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ الْمَصْدَرُ فِيهِ عَلَى فَاعِلٍ وَفَاعِلَةٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الطَّائِفُ وَالطَّيْفُ سَوَاءٌ، وَهُوَ مَا كَانَ كَالْخَيَالِ الَّذِي يُلِمُّ بِالْإِنْسَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الطَّيْفُ كَالْخَطْرَةِ وَالطَّائِفُ كَالْخَاطِرِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْغَضَبَ إِنَّمَا يَهِيجُ بِالْإِنْسَانِ إِذَا اسْتَقْبَحَ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ، ثُمَّ اعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَوْنَهُ قَادِرًا، وَاعْتَقَدَ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ كَوْنَهُ عَاجِزًا عَنِ الدَّفْعِ، فَعِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ الثَّلَاثَةِ إِذَا كان واقعاً في ظلمات عالم الأجسام فيغتروا بِظَوَاهِرِ الْأُمُورِ، فَأَمَّا إِذَا انْكَشَفَ لَهُ نُورٌ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ زَالَتْ هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتُ الثَّلَاثَةُ مِنْ جِهَاتٍ كَثِيرَةٍ. أَمَّا الِاعْتِقَادُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ اسْتِقْبَاحُ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ، فَإِذَا انْكَشَفَ لَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ فِيهِ دَاعِيَةً جَازِمَةً رَاسِخَةً، وَمَتَى خَلَقَ اللَّه فِيهِ تِلْكَ الدَّاعِيَةَ امْتَنَعَ مِنْهُ أَنْ لَا يَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، فَإِذَا تَجَلَّى هَذَا الْمَعْنَى زَالَ الْغَضَبُ، وَأَيْضًا فَقَدْ يَخْطُرُ بِبَالِ الْإِنْسَانِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى عَلِمَ مِنْهُ هَذِهِ الْحَالَةَ، وَمَتَى كَانَ كَذَلِكَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى تَرْكِهَا، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَفِرُّ غَضَبُهُ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ عَرَفَ سِرَّ اللَّه فِي الْقَدَرِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَصَائِبُ»

/ وَأَمَّا الِاعْتِقَادُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ: وَهُوَ اعْتِقَادُهُ فِي نَفْسِهِ كَوْنَهُ قَادِرًا، وَكَوْنَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ عَاجِزًا، فَهَذَانِ الِاعْتِقَادَانِ أَيْضًا فَاسِدَانِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَمْ أَسَاءَ فِي الْعَمَلِ، واللَّه كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ، وَهُوَ كَانَ أَسِيرًا فِي قَبْضَةِ قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى، ثُمَّ إِنَّهُ تَجَاوَزَ عَنْهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ عَاجِزٌ فِي يَدِ الْغَضْبَانِ، فَكَذَلِكَ الْغَضْبَانُ عَاجِزٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَةِ اللَّه. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَتَذَكَّرَ الْغَضْبَانُ مَا أَمَرَهُ اللَّه بِهِ مِنْ تَرْكِ إِمْضَاءِ الْغَضَبِ وَالرُّجُوعِ إِلَى تَرْكِ الْإِيذَاءِ وَالْإِيحَاشِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ إِذَا أَمْضَى الْغَضَبَ وَانْتَقَمَ كَانَ شريكاً للسباع المؤذية والحياة الْقَاتِلَةِ، وَإِنْ تَرَكَ الِانْتِقَامَ وَاخْتَارَ الْعَفْوَ كَانَ شَرِيكًا لِأَكَابِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَتَذَكَّرَ أَنَّهُ رُبَّمَا انْقَلَبَ ذَلِكَ الضَّعِيفُ قَوِيًّا قَادِرًا عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِمُ مِنْهُ عَلَى أَسْوَأِ الْوُجُوهِ، أَمَّا إِذَا عَفَا كَانَ ذَلِكَ إِحْسَانًا مِنْهُ إِلَيْهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الثَّلَاثَةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ:

تَذَكَّرُوا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي تُفِيدُ ضَعْفَ تِلْكَ الِاعْتِقَادَاتِ وَقَوْلُهُ: فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إِذَا حَضَرَتْ هَذِهِ التَّذَكُّرَاتُ فِي عُقُولِهِمْ، فَفِي الْحَالِ يَزُولُ مَسُّ طَائِفِ الشَّيْطَانِ، وَيَحْصُلُ الِاسْتِبْصَارُ وَالِانْكِشَافُ وَالتَّجَلِّي وَيَحْصُلُ الْخَلَاصُ مِنْ وَسْوَسَةِ الشيطان.

<<  <  ج: ص:  >  >>