للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً أَيْ مُتَزَاحِفِينَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْكُفَّارِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا لِلْمُخَاطَبِينَ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَالزَّحْفُ مَصْدَرٌ مَوْصُوفٌ بِهِ كَالْعَدْلِ وَالرِّضَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجْمَعْ، وَالْمَعْنَى: إِذَا ذَهَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِلْقِتَالِ، فَلَا تَنْهَزِمُوا، وَمَعْنَى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أَيْ لَا تَجْعَلُوا ظُهُورَكُمْ مِمَّا يَلِيهِمْ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ هَذَا الِانْهِزَامِ بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الِانْهِزَامَ مُحَرَّمٌ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ:

إِحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُتَحَرِّفًا لِلْقِتَالٍ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنْ يُخَيِّلَ إِلَى عَدُوِّهِ أَنَّهُ مُنْهَزِمٌ. ثُمَّ يَنْعَطِفُ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَحَدُ أَبْوَابِ خُدَعِ الْحَرْبِ وَمَكَايِدِهَا، يُقَالُ: تَحَرَّفَ وَانْحَرَفَ إِذَا زَالَ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِوَاءِ. وَالثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: التَّحَيُّزُ التَّنَحِّي وَفِيهِ لُغَتَانِ: التَّحَيُّزُ وَالتَّحَوُّزُ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَأَصْلُ هَذَا الْحَوْزُ، وَهُوَ الْجَمْعُ. يُقَالُ: حُزْتُهُ فَانْحَازَ وَتَحَوَّزَ وَتَحَيَّزَ إِذَا انْضَمَّ وَاجْتَمَعَ، ثُمَّ سُمِّيَ التَّنَحِّي تَحَيُّزًا، لِأَنَّ الْمُتَنَحِّيَ عَنْ جَانِبٍ يَنْفَصِلُ عَنْهُ وَيَمِيلُ إِلَى غَيْرِهِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْفِئَةُ الْجَمَاعَةُ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُتَحَيِّزُ كَالْمُنْفَرِدِ، وَفِي الْكُفَّارِ كَثْرَةٌ، وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّ ذَلِكَ الْمُنْفَرِدِ أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ قُتِلَ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنْ تَحَيَّزَ إِلَى جَمْعٍ كَانَ رَاجِيًا لِلْخَلَاصِ، وَطَامِعًا فِي الْعَدُوِّ بِالْكَثْرَةِ، فَرُبَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّحَيُّزُ إِلَى هَذِهِ الْفِئَةِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَائِزًا/ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِانْهِزَامَ مِنَ الْعَدُوِّ حَرَامٌ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ.

ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّه وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْقَطْعِ بِوَعِيدِ الْفُسَّاقِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ مَنِ انْهَزَمَ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ اسْتَوْجَبَ غَضَبَ اللَّه وَنَارَ جَهَنَّمَ. قَالَ وَلَيْسَ لِلْمُرْجِئَةِ أَنْ يَحْمِلُوا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْكُفَّارِ دُونَ أَهْلِ الصَّلَاةِ، كَصُنْعِهِمْ فِي سَائِرِ آيَاتِ الْوَعِيدِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَعِيدَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الصَّلَاةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قَدْ ذَكَرْنَاهَا عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِهَذِهِ الظَّوَاهِرِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّهَا مُعَارَضَةٌ بِعُمُومَاتِ الْوَعْدِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ التَّرْجِيحَ بِجَانِبِ عُمُومَاتِ الْوَعْدِ مِنَ الْوُجُوهِ الْكَثِيرَةِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَوْ هُوَ حَاصِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَنُقِلَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مُخْتَصٌّ بِمَنْ كَانَ انْهَزَمَ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالُوا: وَالسَّبَبُ فِي اخْتِصَاصِ يَوْمِ بَدْرٍ بِهَذَا الْحُكْمِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ حَاضِرًا يَوْمَ بَدْرٍ وَمَعَ حُضُورِهِ لَا يُعَدُّ غَيْرُهُ فِيهِ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّهُ لَا يُسَاوَى بِهِ سَائِرُ الْفِئَاتِ. بَلْ هُوَ أَشْرَفُ وَأَعْلَى مِنَ الْكُلِّ، وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ اللَّه تَعَالَى وَعَدَهُ بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمُ التَّحَيُّزُ إِلَى فِئَةٍ أُخْرَى. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ، لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْجِهَادِ وَلَوِ اتَّفَقَ لِلْمُسْلِمِينَ انْهِزَامٌ فِيهِ، لَزِمَ مِنْهُ الْخَلَلُ الْعَظِيمُ، فَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِمُ التَّشَدُّدُ وَالْمُبَالَغَةُ، وَلِهَذَا السَّبَبِ مَنَعَ اللَّه فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ أَخْذِ الْفِدَاءِ مِنَ الْأَسْرَى.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ الْحُرُوبِ، بِدَلِيلِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يا

<<  <  ج: ص:  >  >>