للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَنَّ تَوْبَةَ الزِّنْدِيقِ هَلْ تُقْبَلُ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ لِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ:

هَذِهِ الْآيَةُ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ.

فَإِنْ قِيلَ: الزِّنْدِيقُ لَا يُعْلَمُ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ هَلِ انْتَهَى مِنْ زَنْدَقَتِهِ أَمْ لَا؟

قُلْنَا: أَحْكَامُ الشَّرْعِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الظَّوَاهِرِ، كَمَا

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ»

فَلَمَّا رَجَعَ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ. الثَّانِي: لَا شَكَّ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِالرُّجُوعِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إِلَيْهِ إِلَّا بِهَذِهِ التَّوْبَةِ فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ لَزِمَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ. الثَّالِثُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ [الشُّورَى: ٢٥] .

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَيْسُوا مُخَاطَبِينَ بِفُرُوعِ الشَّرَائِعِ، قَالُوا لِأَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا، لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا مَعَ الْكُفْرِ أَوْ بَعْدَ زَوَالِ الْكُفْرِ. وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِمَّا مَرَّ عَلَيْهِ فِي زَمَانِ الْكُفْرِ وَإِيجَابُ قَضَاءِ تِلْكَ الْعِبَادَاتِ يُنَافِي ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَرَكَهَا فِي حَالَةِ الرِّدَّةِ وَقَبْلَهَا، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ ظَاهِرٌ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ:

قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ»

فَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرُ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاءُ شَيْءٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ جِنَايَةٍ عَلَى نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَهُوَ سَاعَةَ إِسْلَامِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِنَّ تَوْحِيدَ سَاعَةٍ يَهْدِمُ كُفْرَ سَبْعِينَ سَنَةً، وَتَوْحِيدُ سَبْعِينَ سَنَةً كَيْفَ لَا يَقْوَى عَلَى هدم ذنب ساعة؟!

[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]

وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ إِنِ انْتَهَوْا عَنْ كُفْرِهِمْ حَصَلَ لَهُمُ الْغُفْرَانُ، وَإِنْ عَادُوا فَهُمْ مُتَوَعَّدُونَ بِسُنَّةِ الْأَوَّلِينَ، أَتْبَعَهُ بِأَنْ أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ إِذَا أَصَرُّوا فَقَالَ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ قَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِي مَبْدَأِ الدَّعْوَةِ يُفْتَنُونَ عَنْ دِينِ اللَّه، فَافْتَتَنَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضُهُمْ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَخْرُجُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، وَفِتْنَةٌ ثَانِيَةٌ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَايَعَتِ الْأَنْصَارُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم بيعة العقبة، توامرت قُرَيْشٌ أَنْ يَفْتِنُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ عَنْ دِينِهِمْ، فَأَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ جَهْدٌ شَدِيدٌ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَأَمَرَ اللَّه تَعَالَى بِقِتَالِهِمْ حَتَّى تَزُولَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ مُبَالَغَةَ النَّاسِ فِي حُبِّهِمْ أَدْيَانَهُمْ أَشَدُّ مِنْ مُبَالَغَتِهِمْ فِي حُبِّهِمْ أَرْوَاحَهُمْ، فَالْكَافِرُ أَبَدًا يَسْعَى بِأَعْظَمِ وُجُوهِ السَّعْيِ فِي إِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَفِي إِلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ وَفِي إِلْقَائِهِمْ فِي وُجُوهِ الْمِحْنَةِ وَالْمَشَقَّةِ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْمُقَاتَلَةُ زَالَ الْكُفْرُ وَالْمَشَقَّةُ، وَخَلَصَ الْإِسْلَامُ وَزَالَتْ تِلْكَ الْفِتَنُ بِالْكُلِّيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي: إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِقِتَالِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ الْعِلَّةَ الَّتِي بِهَا أَوْجَبَ قِتَالَهُمْ، فَقَالَ: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَخْلُصُ الدِّينُ الَّذِي هُوَ دِينُ اللَّه مِنْ سَائِرِ الْأَدْيَانِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إِذَا زَالَ الْكُفْرُ بِالْكُلِّيَّةِ. إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَقاتِلُوهُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَحْصُلَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَقاتِلُوهُمْ لِغَرَضِ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>