للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ قِيلَ: رُؤْيَةُ الْكَثِيرِ قَلِيلًا غَلَطٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ مِنَ اللَّه تَعَالَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؟

قُلْنَا: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيُحْكِمُ مَا يُرِيدُ، وَأَيْضًا لَعَلَّهُ تَعَالَى أَرَاهُ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَحَكَمَ الرَّسُولُ عَلَى أُولَئِكَ الَّذِينَ رَآهُمْ بِأَنَّهُمْ قَلِيلُونَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: هَذِهِ الْإِرَاءَةُ كَانَتْ فِي الْيَقَظَةِ. قَالَ: وَالْمُرَادُ مِنَ الْمَنَامِ الْعَيْنُ الَّتِي هِيَ مَوْضِعُ النَّوْمِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَذَكَرْتَهُ لِلْقَوْمِ وَلَوْ سَمِعُوا ذَلِكَ لَفَشِلُوا وَلَتَنَازَعُوا، وَمَعْنَى التَّنَازُعِ فِي الْأَمْرِ، الِاخْتِلَافُ الَّذِي يُحَاوِلُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ نَزْعَ صَاحِبِهِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: لَاضْطَرَبَ أَمْرُكُمْ وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أَيْ سَلَّمَكُمْ مِنَ الْمُخَالَفَةِ فِيمَا بَيْنَكُمْ. وَقِيلَ: سَلَّمَ اللَّه لَهُمْ أَمْرَهُمْ حَتَّى أَظْهَرَهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ، وَقِيلَ سَلَّمَهُمْ مِنَ الْهَزِيمَةِ يَوْمَ بَدْرٍ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ، وَلَكِنَّ اللَّه سَلَّمَكُمْ مِنَ التَّنَازُعِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يَعْلَمُ مَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنَ الْجَرَاءَةِ وَالْجُبْنِ وَالصَّبْرِ وَالْجَزَعِ.

[[سورة الأنفال (٨) : آية ٤٤]]

وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)

اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّوْعُ الثَّالِثُ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي أَظْهَرَهَا اللَّه لِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْقَلِيلَ الَّذِي حَصَلَ فِي النَّوْمِ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحُصُولِهِ فِي الْيَقَظَةِ. قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضَّمِيرَانِ مَفْعُولَانِ يَعْنِي إِذْ يُبَصِّرُكُمْ إِيَّاهُمْ، وقَلِيلًا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى قَلَّلَ عَدَدَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَلَّلَ أَيْضًا عَدَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ.

وَالْحِكْمَةُ فِي التَّقْلِيلِ الْأَوَّلِ، تَصْدِيقَ رُؤْيَا الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَيْضًا لِتَقْوَى قُلُوبُهُمْ وَتَزْدَادَ جَرَاءَتُهُمْ عَلَيْهِمْ، وَالْحِكْمَةُ فِي التَّقْلِيلِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اسْتَقَلُّوا عَدَدَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُبَالِغُوا فِي الِاسْتِعْدَادِ وَالتَّأَهُّبِ وَالْحَذَرِ، فَصَارَ ذَلِكَ سَبَبًا لِاسْتِيلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ.

فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُرِيَهُمُ الْكَثِيرَ قَلِيلًا؟

قُلْنَا: أَمَّا عَلَى مَا قُلْنَا فَذَاكَ جَائِزٌ، لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى خَلَقَ الْإِدْرَاكَ فِي حَقِّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ. وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَالُوا: لَعَلَّ الْعَيْنَ مُنِعَتْ مِنْ إِدْرَاكِ الْكُلِّ، أَوْ لَعَلَّ الْكَثِيرَ مِنْهُمْ كَانُوا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ فَمَا حَصَلَتْ رُؤْيَتُهُمْ.

ثُمَّ قَالَ: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا.

فَإِنْ قِيلَ: ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَانَ ذكره هاهنا مَحْضَ التَّكْرَارِ.

قُلْنَا: الْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ أَنَّهُ تَعَالَى فَعَلَ تِلْكَ الْأَفْعَالَ لِيَحْصُلَ اسْتِيلَاءُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُعْجِزَةً دَالَّةً عَلَى صِدْقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِ هاهنا، لَيْسَ هُوَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تعالى ذكر هاهنا أَنَّهُ قَلَّلَ عَدَدَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِ الْمُشْرِكِينَ، فبين هاهنا أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِئَلَّا يُبَالِغَ الْكُفَّارُ فِي تَحْصِيلِ الِاسْتِعْدَادِ وَالْحَذَرِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِانْكِسَارِهِمْ.

ثُمَّ قَالَ: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِذَوَاتِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهَا مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ زَادًا ليوم المعاد.

<<  <  ج: ص:  >  >>