للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مُخْتَصًّا بِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ، وَالرُّهْبَانُ بِعُلَمَاءِ النَّصَارَى أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْأَكْثَرُونَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: لَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْأَرْبَابِ أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا فِيهِمْ أَنَّهُمْ آلِهَةُ الْعَالَمِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِي أَوَامِرِهِمْ وَنَوَاهِيهِمْ،

نُقِلَ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ كَانَ نَصْرَانِيًّا فَانْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةَ، فَوَصَلَ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ، قَالَ: فَقُلْتُ: لَسْنَا نَعْبُدُهُمْ فَقَالَ: «أَلَيْسَ يُحَرِّمُونَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَتُحَرِّمُونَهُ وَيُحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَتَسْتَحِلُّونَهُ» فَقُلْتُ: بَلَى قَالَ: «فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ»

وَقَالَ الرَّبِيعُ: قُلْتُ لِأَبِي الْعَالِيَةِ كَيْفَ كَانَتْ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ رُبَّمَا وَجَدُوا فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا يُخَالِفُ أَقْوَالَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ بِأَقْوَالِهِمْ وَمَا كَانُوا يَقْبَلُونَ حُكْمَ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ شَيْخُنَا وَمَوْلَانَا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ وَالْمُجْتَهِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَدْ شَاهَدْتُ جَمَاعَةً مِنْ مُقَلِّدَةِ الْفُقَهَاءِ، قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ آيَاتٍ كَثِيرَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، وَكَانَتْ مَذَاهِبُهُمْ بِخِلَافِ تِلْكَ الْآيَاتِ، فَلَمْ يَقْبَلُوا تِلْكَ الْآيَاتِ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَبَقُوا يَنْظُرُونَ إِلَيَّ كَالْمُتَعَجِّبِ، يَعْنِي كَيْفَ يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ هَذِهِ الْآيَاتِ مَعَ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ سَلَفِنَا وَرَدَتْ عَلَى خِلَافِهَا، وَلَوْ تَأَمَّلْتَ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَجَدْتَ هَذَا الدَّاءَ سَارِيًا فِي عُرُوقِ الْأَكْثَرِينَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَفَّرَهُمْ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ أَطَاعُوا الْأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ فَالْفَاسِقُ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِكُفْرِهِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ الْخَوَارِجِ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْفَاسِقَ، وَإِنْ كَانَ يَقْبَلُ دَعْوَةَ الشَّيْطَانِ إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَظِّمُهُ لَكِنْ يَلْعَنُهُ، وَيَسْتَخِفُّ بِهِ أَمَّا أُولَئِكَ الْأَتْبَاعُ كَانُوا يَقْبَلُونَ قَوْلَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَيُعَظِّمُونَهُمْ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةِ أَنَّ الْجُهَّالَ وَالْحَشْوِيَّةَ إِذَا بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِ شَيْخِهِمْ وَقُدْوَتِهِمْ، فَقَدْ يَمِيلُ طَبْعُهُمْ إِلَى الْقَوْلِ بِالْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَذَلِكَ الشَّيْخُ إِذَا كَانَ طَالِبًا لِلدُّنْيَا بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ، فَقَدْ يُلْقِي إِلَيْهِمْ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا يَقُولُونَ وَيَعْتَقِدُونَ، وَشَاهَدْتُ بَعْضَ الْمُزَوِّرِينَ مِمَّنْ كَانَ/ بَعِيدًا عَنِ الدِّينِ كَانَ يَأْمُرُ أَتْبَاعَهُ وَأَصْحَابَهُ بِأَنْ يَسْجُدُوا لَهُ، وَكَانَ يَقُولُ لَهُمْ أَنْتُمْ عَبِيدِي، فَكَانَ يُلْقِي إِلَيْهِمْ مِنْ حَدِيثِ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ أَشْيَاءَ، وَلَوْ خَلَا بِبَعْضِ الْحَمْقَى مِنْ أَتْبَاعِهِ، فَرُبَّمَا ادَّعَى الْإِلَهِيَّةَ، فَإِذَا كَانَ مُشَاهَدًا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَكَيْفَ يَبْعُدُ ثُبُوتُهُ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؟ وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ تِلْكَ الرُّبُوبِيَّةَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ أَطَاعُوهُمْ فِيمَا كَانُوا مُخَالِفِينَ فِيهِ لِحُكْمِ اللَّهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا أَنَّهُمْ قَبِلُوا أَنْوَاعَ الْكُفْرِ، فَكَفَرُوا باللَّه، فَصَارَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَثْبَتُوا فِي حَقِّهِمُ الْحُلُولَ وَالِاتِّحَادَ. وَكُلُّ هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَرْبَعَةِ مُشَاهَدٌ وَوَاقِعٌ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ نَاطِقَةٌ بِذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيْ سُبْحَانَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْأَمْرِ وَالتَّكْلِيفِ، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي كَوْنِهِ مَسْجُودًا وَمَعْبُودًا، وَأَنْ يَكُونَ لَهُ شَرِيكٌ فِي وُجُوبِ نِهَايَةِ التَّعْظِيمِ والإجلال.

[[سورة التوبة (٩) : آية ٣٢]]

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢)

<<  <  ج: ص:  >  >>