للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالتَّجَبُّرِ وَالْفَخْرِ، أَخْذُ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَلَعَمْرِي مَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ أَهْلِ النَّامُوسِ وَالتَّزْوِيرِ فِي زَمَانِنَا وَجَدَ هَذِهِ الْآيَاتِ كَأَنَّهَا مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا فِي شَأْنِهِمْ وَفِي شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ، فَتَرَى الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الدُّنْيَا وَلَا يَتَعَلَّقُ خَاطِرُهُ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَأَنَّهُ فِي الطَّهَارَةِ وَالْعِصْمَةِ مِثْلُ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ حَتَّى إِذَا آلَ الْأَمْرُ إِلَى الرَّغِيفِ الْوَاحِدِ تَرَاهُ يَتَهَالَكُ عَلَيْهِ وَيَتَحَمَّلُ نِهَايَةَ الذُّلِّ وَالدَّنَاءَةِ فِي تَحْصِيلِهِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَدْ عَرَفْتَ أَنَّ الْأَحْبَارَ مِنَ الْيَهُودِ، وَالرُّهْبَانَ مِنَ النَّصَارَى بِحَسَبِ الْعُرْفِ، فاللَّه تَعَالَى حَكَى عَنْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: كَثِيراً لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ طَرِيقَةُ بَعْضِهِمْ لَا طَرِيقَةُ الْكُلِّ، فَإِنَّ الْعَالَمَ لَا يَخْلُو عَنِ الْحَقِّ وَإِطْبَاقُ الْكُلِّ عَلَى الْبَاطِلِ كَالْمُمْتَنِعِ هَذَا يُوهِمُ أَنَّهُ كَمَا أَنَّ إِجْمَاعَ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْبَاطِلِ لَا يَحْصُلُ، فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأُمَمِ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى عَبَّرَ عَنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ بِالْأَكْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: لَيَأْكُلُونَ وَالسَّبَبُ فِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ، أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَعْظَمَ مِنْ جَمْعِ الْأَمْوَالِ هُوَ الْأَكْلُ، فَسُمِّيَ الشَّيْءُ بِاسْمِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مَقَاصِدِهِ، أَوْ يُقَالُ مَنْ أَكَلَ شَيْئًا فَقَدْ ضَمِنَهُ إِلَى نَفْسِهِ وَمَنَعَهُ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى غَيْرِهِ، وَمَنْ جَمَعَ الْمَالَ فَقَدْ ضَمَّ تِلْكَ الْأَمْوَالَ إِلَى نَفْسِهِ، وَمَنَعَهَا مِنَ الْوُصُولِ إِلَى غَيْرِهِ، فَلَمَّا حَصَلَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْأَكْلِ وَبَيْنَ الْأَخْذِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، سُمِّيَ الْأَخْذُ بِالْأَكْلِ أَوْ يُقَالُ:

إِنَّ مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ، فَإِذَا طُولِبَ بِرَدِّهَا، قَالَ أَكَلْتُهَا وَمَا بَقِيَتْ، فَلَا أَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا، فَلِهَذَا السَّبَبِ سُمِّيَ الْأَخْذُ بِالْأَكْلِ.

الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبَاطِلِ عَلَى وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الرُّشَا فِي تَخْفِيفِ الْأَحْكَامِ وَالْمُسَامَحَةِ فِي الشَّرَائِعِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ عِنْدَ الْحَشَرَاتِ وَالْعَوَامِّ مِنْهُمْ، أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الْفَوْزِ بِمَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا بِخِدْمَتِهِمْ وَطَاعَتِهِمْ، وَبَذْلِ الْأَمْوَالِ فِي طَلَبِ مَرْضَاتِهِمْ وَالْعَوَامُّ كَانُوا يَغْتَرُّونَ بِتِلْكَ الْأَكَاذِيبِ. الثَّالِثُ: التَّوْرَاةُ كَانَتْ مُشْتَمِلَةً عَلَى آيَاتٍ دَالَّةٍ عَلَى مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُولَئِكَ الْأَحْبَارُ وَالرُّهْبَانُ، كَانُوا يَذْكُرُونَ فِي تَأْوِيلِهَا وُجُوهًا فَاسِدَةً، وَيَحْمِلُونَهَا عَلَى مُحَامِلَ بَاطِلَةٍ، وَكَانُوا يُطَيِّبُونَ قُلُوبَ عَوَامِّهِمْ بِهَذَا السَّبَبِ، وَيَأْخُذُونَ الرِّشْوَةَ. وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَرِّرُونَ عِنْدَ عَوَامِّهِمْ أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ هُوَ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ فَإِذَا قَرَّرُوا ذَلِكَ قَالُوا وَتَقْوِيَةُ الدِّينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ ثُمَّ قَالُوا: وَلَا طَرِيقَ إِلَى تَقْوِيَتِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ أُولَئِكَ الْفُقَهَاءُ أَقْوَامًا عُظَمَاءَ أَصْحَابَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ وَالْجَمْعِ الْعَظِيمِ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْمِلُونَ الْعَوَامَّ عَلَى أَنْ يَبْذُلُوا فِي خِدْمَتِهِمْ نُفُوسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَهَذَا هُوَ الْبَاطِلُ الَّذِي كَانُوا بِهِ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ، وَهِيَ بِأَسْرِهَا حَاضِرَةٌ فِي زَمَانِنَا، وَهُوَ الطَّرِيقُ لِأَكْثَرِ الْجُهَّالِ وَالْمُزَوِّرِينَ إِلَى أَخْذِ أَمْوَالِ الْعَوَامِّ وَالْحَمْقَى مِنَ الْخَلْقِ.

ثُمَّ قَالَ: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ عَلَى مُتَابَعَتِهِمْ وَيَمْنَعُونَ عَنْ مُتَابَعَةِ الْأَخْيَارِ مِنَ الْخَلْقِ وَالْعُلَمَاءِ فِي الزَّمَانِ، وَفِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانُوا يُبَالِغُونَ فِي الْمَنْعِ عَنْ مُتَابَعَتِهِ بِجَمِيعِ وُجُوهِ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ.

قَالَ الْمُصَنِّفُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: غَايَةُ مَطْلُوبِ الْخَلْقِ فِي الدُّنْيَا الْمَالُ وَالْجَاهُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ كَوْنَهُمْ مَشْغُوفِينَ بِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، فَالْمَالُ هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَمَّا الْجَاهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>