للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ما يشاء ويحكم ما يريد أو الحكمة لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ. فَإِنْ قِيلَ هَلْ لِلِاقْتِصَارِ بِخَادَعْتُ عَلَى وَاحِدٍ وَجْهٌ صَحِيحٌ؟ قُلْنَا قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: عَنَى بِهِ فَعَلْتُ إِلَّا أَنَّهُ أُخْرِجَ فِي زِنَةِ فَاعَلْتُ، لِأَنَّ الزِّنَةَ فِي أَصْلِهَا لِلْمُبَالَغَةِ وَالْفِعْلُ مَتَى غُولِبَ فِيهِ فَاعِلُهُ جَاءَ أَبْلَغَ وَأَحْكَمَ مِنْهُ إِذَا زَاوَلَهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ مُغَالِبٍ، لِزِيَادَةِ قُوَّةِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَيُعَضِّدُهُ قِرَاءَةُ أَبِي حَيْوَةَ «يَخْدَعُونَ اللَّهَ» ثُمَّ قَالَ: يُخادِعُونَ بَيَانًا لِيَقُولُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا كَأَنَّهُ قِيلَ وَلِمَ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ كَاذِبِينَ. وَمَا نَفْعُهُمْ فِيهِ؟ فَقِيلَ يُخادِعُونَ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر «وَمَا يُخَادِعُونَ» وَالْبَاقُونَ «يَخْدَعُونَ» وَحُجَّةُ الْأَوَّلِينَ:

مُطَابَقَةُ اللَّفْظِ حَتَّى يَكُونَ مُطَابِقًا لِلَّفْظِ الْأَوَّلِ، وَحُجَّةُ الْبَاقِينَ أَنَّ الْمُخَادَعَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَلَا يَكُونُ الْإِنْسَانُ الْوَاحِدُ مُخَادِعًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى يُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ وَيُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُونَ فِي الْحَقِيقَةِ خَادِعِينَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الْحَسَنِ. وَالثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهُوَ أَنَّ وَبَالَ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ يَدْفَعُ ضَرَرَ خِدَاعِهِمْ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَيَصْرِفُهُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ

[النساء: ١٤٢] وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [الْبَقَرَةِ: ١٤، ١٥] أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ [الْبَقَرَةِ: ١٣] وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً [النمل: ٥٠] إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً [الطَّارِقِ: ١٥، ١٦] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْمَائِدَةِ: ٣٣] إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْأَحْزَابِ: ٥٧] وَبَقِيَ فِي الْآيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَبْحَاثٌ. أَحَدُهَا: قُرِئَ «وَمَا يخادعون» مِنْ أَخْدَعَ وَ «يَخَدِّعُونَ» بِفَتْحِ الْيَاءِ بِمَعْنَى يَخْتَدِعُونَ «وَيُخْدَعُونَ» وَ «يُخَادَعُونَ» عَلَى لَفْظِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَثَانِيهَا: النَّفْسُ ذَاتُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتُهُ، وَلَا تَخْتَصُّ بِالْأَجْسَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ [الْمَائِدَةِ: ١١٦] وَالْمُرَادُ بِمُخَادَعَتِهِمْ ذَوَاتِهِمْ أَنَّ الْخِدَاعَ/ لَا يَعْدُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ الشُّعُورَ عِلْمُ الشَّيْءِ إِذَا حَصَلَ بِالْحِسِّ، وَمَشَاعِرُ الْإِنْسَانِ حَوَاسُّهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّ لُحُوقَ ضَرَرِ ذَلِكَ بِهِمْ كَالْمَحْسُوسِ، لَكِنَّهُمْ لِتَمَادِيهِمْ فِي الْغَفْلَةِ كَالَّذِي لَا يَحُسُّ.

أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَرَضَ صِفَةٌ تُوجِبُ وُقُوعَ الضَّرَرِ فِي الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنْ مَوْضِعِ تِلْكَ الصِّفَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَثَرُ الْخَاصُّ بِالْقَلْبِ إِنَّمَا هُوَ مَعْرِفَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَتَهُ وَعُبُودِيَّتَهُ، فَإِذَا وَقَعَ فِي الْقَلْبِ مِنَ الصِّفَاتِ مَا صَارَ مَانِعًا مِنْ هَذِهِ الْآثَارِ كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَاتُ أَمْرَاضًا لِلْقَلْبِ. فَإِنْ قِيلَ: الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْمَزِيدِ عليه، فلو كان المراد من المرض هاهنا الْكُفْرَ وَالْجَهْلَ لَكَانَ قَوْلُهُ: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً مَحْمُولًا عَلَى الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى فَاعِلًا لِلْكُفْرِ وَالْجَهْلِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ فِعْلَ الْكُفْرِ وَالْجَهْلِ لِوُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى الطَّعْنِ فِي الْقُرْآنِ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى ذَلِكَ لَقَالُوا لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا فَعَلَ اللَّهُ الْكُفْرَ فِينَا، فَكَيْفَ تَأْمُرُنَا بِالْإِيمَانِ؟ وَثَانِيهَا:

أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ كَانَ فَاعِلًا لِلْكُفْرِ لَجَازَ مِنْهُ إِظْهَارُ الْمُعْجِزَةِ عَلَى يَدِ الْكَذَّابِ، فَكَانَ لَا يَبْقَى كَوْنُ الْقُرْآنِ حُجَّةً فَكَيْفَ نَتَشَاغَلُ بِمَعَانِيهِ وَتَفْسِيرِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فَكَيْفَ يَذُمُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ خَلَقَهُ فِيهِمْ. وَرَابِعُهَا: قَوْلُهُ: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ ذَلِكَ فِيهِمْ كَمَا خَلَقَ لَوْنَهُمْ وَطُولَهُمْ، فَأَيُّ ذَنْبٍ لَهُمْ حَتَّى يُعَذِّبَهُمْ؟ وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَهُ إِلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: بِما كانُوا