للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالْجَوَابُ: لَعَلَّ السَّبَبَ فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ مِنَ الرَّسُولِ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهِ قَمِيصَهُ الَّذِي مَسَّ جِلْدَهُ لِيُدْفَنَ فِيهِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ انْتَقَلَ إِلَى الْإِيمَانِ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَقْتَ وَقْتٌ يَتُوبُ فِيهِ الْفَاجِرُ وَيُؤْمِنُ فِيهِ الْكَافِرُ، فَلَمَّا رَأَى مِنْهُ إِظْهَارَ الْإِسْلَامِ وَشَاهَدَ مِنْهُ هَذِهِ الْأَمَارَةَ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى دُخُولِهِ فِي الْإِسْلَامِ، غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ صَارَ مُسْلِمًا، فَبَنَى عَلَى هَذَا الظَّنِّ وَرَغِبَ فِي أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَنِفَاقِهِ، امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ/ عَلَيْهِ. وَأَمَّا دَفْعُ الْقَمِيصِ إِلَيْهِ فَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أُخِذَ أَسِيرًا بِبَدْرٍ، لَمْ يَجِدُوا لَهُ قَمِيصًا، وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلًا، فَكَسَاهُ عَبْدُ اللَّهِ قَمِيصَهُ.

الثَّانِي: أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لَهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، إِنَّا لَا نَنْقَادُ لِمُحَمَّدٍ وَلَكِنَّا نَنْقَادُ لَكَ، فَقَالَ لَا، إِنَّ لِي فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةً حَسَنَةً، فَشَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُ أَنْ لَا يَرُدَّ سَائِلًا بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضُّحَى: ١٠] فَلَمَّا طَلَبَ الْقَمِيصَ مِنْهُ دَفَعَهُ إِلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى. الرَّابِعُ: أَنَّ مَنْعَ الْقَمِيصِ لَا يَلِيقُ بِأَهْلِ الْكَرَمِ. الْخَامِسُ: أَنَّ ابْنَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَأَنَّ الرَّسُولَ أَكْرَمَهُ لِمَكَانِ ابْنِهِ.

السَّادِسُ: لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّكَ إِذَا دَفَعْتَ قَمِيصَكَ إِلَيْهِ صَارَ ذَلِكَ حَامِلًا لِأَلْفِ نَفَرٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ فَفَعَلَ ذَلِكَ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا ذَلِكَ أَسْلَمَ أَلْفٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ. السَّابِعُ: أَنَّ الرَّحْمَةَ وَالرَّأْفَةَ كَانَتْ غَالِبَةً عَلَيْهِ كَمَا قَالَ: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ١٠٧] وَقَالَ: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] فَامْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ رِعَايَةً لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَدَفَعَ إِلَيْهِ الْقَمِيصَ لِإِظْهَارِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: ماتَ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلنَّكِرَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَيِّتٍ وَقَوْلُهُ: أَبَداً مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: أَحَدٍ وَالتَّقْدِيرُ وَلَا تُصَلِّ أَبَدًا عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: ولا تصل أبدا يحتمل تأبيد النفي ويحتمل تأبيد الْمَنْفِيِّ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ قَرَائِنَ هَذِهِ الْآيَاتِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُهُ مِنْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَنْعًا كُلِّيًّا دَائِمًا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ وَفِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ:

قَالَ الزَّجَّاجُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دَفَنَ الْمَيِّتَ وَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا لَهُ،

فمنع هاهنا مِنْهُ. الثَّانِي: قَالَ الْكَلْبِيُّ لَا تَقُمْ بِإِصْلَاحِ مُهِمَّاتِ قَبْرِهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ، قَامَ فُلَانٌ بِأَمْرِ فُلَانٍ إِذَا كَفَاهُ أَمْرَهُ وَتَوَلَّاهُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَلَّلَ الْمَنْعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَالْقِيَامِ عَلَى قَبْرِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ وَفِيهِ سُؤَالَاتٌ:

السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: الْفِسْقُ أَدْنَى حَالًا مِنَ الْكُفْرِ، وَلَمَّا ذَكَرَ فِي تَعْلِيلِ هَذَا النَّهْيِ كَوْنَهُ كَافِرًا فَمَا الْفَائِدَةُ فِي وَصْفِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ فَاسِقًا؟

وَالْجَوَابُ أَنَّ الْكَافِرُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي دِينِهِ. وَقَدْ يَكُونُ فَاسِقًا فِي دِينِهِ خَبِيثًا مَمْقُوتًا عِنْدَ قَوْمِهِ، وَالْكَذِبُ وَالنِّفَاقُ وَالْخِدَاعُ وَالْمَكْرُ وَالْكَيْدُ، أَمْرٌ مُسْتَقْبَحٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، فَالْمُنَافِقُونَ لَمَّا كَانُوا مَوْصُوفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْفِسْقِ بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِالْكُفْرِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ/ طَرِيقَةَ النِّفَاقِ طَرِيقَةٌ مَذْمُومَةٌ عِنْدَ كُلِّ أَهْلِ الْعَالَمِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: أَلَيْسَ أَنَّ الْمُنَافِقَ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مَعَ قِيَامِ الْكُفْرِ فِيهِ؟

<<  <  ج: ص:  >  >>