للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: هَذَا الْقَائِلُ أَهَمَّ كُلَّ الْمُنَافِقِينَ أَوْ بَعْضَهُمْ. الْجَوَابُ: فِي هَذَا خِلَافٌ، لِأَنَّ مَنْ يَحْمِلُ الشَّيَاطِينَ عَلَى كِبَارِ الْمُنَافِقِينَ يَحْمِلُ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى أَنَّهُ مِنْ صِغَارِهِمْ وَكَانُوا يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ آمَنَّا وَإِذَا عَادُوا إِلَى أَكَابِرِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا فِيهِمُ الْمُبَايَنَةَ، وَمَنْ يَقُولُ فِي الشَّيَاطِينِ: الْمُرَادُ بِهِمُ الْكُفَّارُ لَمْ يَمْنَعْ إِضَافَةَ هَذَا الْقَوْلِ إِلَى كُلِّ الْمُنَافِقِينَ، وَلَا شُبْهَةَ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِشَيَاطِينِهِمْ أَكَابِرُهُمْ، وَهُمْ إِمَّا الْكُفَّارُ وَإِمَّا أَكَابِرُ الْمُنَافِقِينَ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَقْدِرُونَ عَلَى الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَأَمَّا أَصَاغِرُهُمْ فَلَا. السُّؤَالُ الثَّانِي: لِمَ كَانَتْ مُخَاطَبَتُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ، وشياطينهم بالجملة الاسمية محققة «بأن» الْجَوَابُ: لَيْسَ مَا خَاطَبُوا بِهِ الْمُؤْمِنِينَ جَدِيرًا بِأَقْوَى الْكَلَامَيْنِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي ادِّعَاءِ حُدُوثِ الْإِيمَانِ مِنْهُمْ لَا فِي ادِّعَاءِ أَنَّهُمْ فِي الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ مِنْهُ، إِمَّا لِأَنَّ أَنْفُسَهُمْ لَا تُسَاعِدُهُمْ عَلَى الْمُبَالَغَةِ لِأَنَّ الْقَوْلَ الصَّادِرَ عَنِ النِّفَاقِ وَالْكَرَاهَةِ قَلَّمَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْمُبَالَغَةُ، وَإِمَّا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ ادِّعَاءَ الْكَمَالِ فِي الْإِيمَانِ لَا يَرُوجُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا كَلَامُهُمْ مَعَ إِخْوَانِهِمْ فَهُمْ كَانُوا يَقُولُونَهُ عَنِ الِاعْتِقَادِ وَعَلِمُوا أَنَّ الْمُسْتَمِعِينَ يَقْبَلُونَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَلَا جَرَمَ كَانَ التَّأْكِيدُ لَائِقًا بِهِ. أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ فَفِيهِ سُؤَالَانِ. السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: مَا الِاسْتِهْزَاءُ؟ الْجَوَابُ: أَصْلُ الْبَابِ الْخِفَّةُ مِنَ الْهَزْءِ وَهُوَ الْعَدْوُ السَّرِيعِ، وَهَزَأَ يَهْزَأُ مَاتَ عَلَى مَكَانِهِ، وَنَاقَتُهُ تَهْزَأُ بِهِ أَيْ تُسْرِعُ، وَحَدُّهُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إِظْهَارِ مُوَافَقَةٍ مَعَ إِبْطَانِ مَا يَجْرِي مَجْرَى السُّوءِ عَلَى طَرِيقِ السُّخْرِيَةِ، فَعَلَى هَذَا قولهم: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ يَعْنِي نُظْهِرُ لَهُمُ الْمُوَافَقَةَ عَلَى دِينِهِمْ لِنَأْمَنَ شَرَّهُمْ وَنَقِفَ عَلَى أَسْرَارِهِمْ، وَنَأْخُذَ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ وَغَنَائِمِهِمْ. السُّؤَالُ الثَّانِي: كَيْفَ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ:

إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ بِقَوْلِهِ: إِنَّا مَعَكُمْ الْجَوَابُ: هُوَ تَوْكِيدٌ لَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِنَّا مَعَكُمْ مَعْنَاهُ الثَّبَاتُ عَلَى الكفر وقوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ رَدٌّ لِلْإِسْلَامِ، وَرَدُّ نَقِيضِ الشَّيْءِ تَأْكِيدٌ لِثَبَاتِهِ، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، لِأَنَّ مَنْ حَقَّرَ الْإِسْلَامَ فَقَدْ عَظَّمَ الْكُفْرَ، أَوِ اسْتِئْنَافٌ، كَأَنَّهُمُ اعْتَرَضُوا عَلَيْهِ حِينَ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ، فَقَالُوا إِنْ صَحَّ ذَلِكَ فَكَيْفَ تُوَافِقُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ؟ فَقَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ أَجَابَهُمْ بِأَشْيَاءَ. أَحَدُهَا: قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وفيه أسئلة. الْأَوَّلُ: كَيْفَ يَجُوزُ وَصْفُ اللَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِهْزَاءَ لَا يَنْفَكُّ عَنِ التَّلْبِيسِ، وَهُوَ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْجَهْلِ، لِقَوْلِهِ: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [الْبَقَرَةِ: ٦٧] وَالْجَهْلُ عَلَى اللَّهِ مُحَالٌ وَالْجَوَابُ: ذَكَرُوا فِي التَّأْوِيلِ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِمْ جَزَاءٌ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ سَمَّاهُ بِالِاسْتِهْزَاءِ، لِأَنَّ جُزْءَ الشَّيْءِ يُسَمَّى بِاسْمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ قَالَ تَعَالَى:

وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشُّورَى: ٤٠] فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [الْبَقَرَةِ: ١٩٤] يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ

[النِّسَاءِ: ١٤٢] وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آلِ عِمْرَانَ: ٥٤]

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «اللَّهُمَّ إِنَّ فُلَانًا هَجَانِي وَهُوَ يَعْلَمُ أَنِّي لَسْتُ بِشَاعِرٍ فَاهْجُهُ، اللَّهُمَّ وَالْعَنْهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي»

أَيِ اجْزِهِ جَزَاءَ هِجَائِهِ،

وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «تَكَلَّفُوا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»

وَثَانِيهَا: أَنَّ ضَرَرَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَاجِعٌ عَلَيْهِمْ وَغَيْرُ ضَارٍّ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ اللَّهَ اسْتَهْزَأَ بِهِمْ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ مِنْ آثَارِ الِاسْتِهْزَاءِ حُصُولُ الْهَوَانِ وَالْحَقَارَةِ فَذَكَرَ الِاسْتِهْزَاءَ، وَالْمُرَادُ حُصُولُ الْهَوَانِ لَهُمْ تَعْبِيرًا بِالسَّبَبِ عَنِ الْمُسَبَّبِ.

وَرَابِعُهَا: أَنَّ اسْتِهْزَاءَ اللَّهِ بِهِمْ أَنْ يُظْهِرَ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا مَا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ خِلَافُهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّهُمْ أَظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ وَالْمُؤْمِنِينَ أَمْرًا مَعَ أَنَّ الْحَاصِلَ مِنْهُمْ فِي السِّرِّ خِلَافُهُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَظْهَرَ