للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْأَصْنَامِ كَانُوا فِي زَمَانِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتْبَاعَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ، وَلَيْسَ بِمُوجَدٍ بِالْمَشِيئَةِ وَالِاخْتِيَارِ، فَقَالَ: الْمُوجَبُ بِالذَّاتِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالْخَيْرَاتِ وَلَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى الْإِنْفَاعِ وَالْإِضْرَارِ، وَلَا يَسْمَعُ دُعَاءَ الْمُحْتَاجِينَ وَلَا يَرَى تَضَرُّعَ الْمَسَاكِينِ، فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِبَادَتِهِ؟ فَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ دَلِيلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الطَّعْنَ فِي قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِلَهُ الْعَالَمِ مُوجَبٌ بِالذَّاتِ. أَمَّا إِذَا كَانَ فَاعِلًا مُخْتَارًا وَكَانَ عَالِمًا بِالْجُزْئِيَّاتِ فَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِلْعِبَادِ الْفَوَائِدُ الْعَظِيمَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَطَاعَ عَلِمَ الْمَعْبُودُ طَاعَتَهُ وَقَدَرَ عَلَى إِيصَالِ الثَّوَابِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ عَصَاهُ عَلِمَ الْمَعْبُودُ ذَلِكَ، وَقَدَرَ عَلَى إِيصَالِ الْعِقَابِ إِلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَقَوْلُهُ:

وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ تَرْغِيبٌ عَظِيمٌ لِلْمُطِيعِينَ، وَتَرْهِيبٌ عَظِيمٌ/ لِلْمُذْنِبِينَ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ:

اجْتَهَدُوا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِنَّ لِعَمَلِكُمْ فِي الدُّنْيَا حُكْمًا وَفِي الْآخِرَةِ حُكْمًا. أَمَّا حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ يَرَاهُ اللَّهُ وَيَرَاهُ الرَّسُولُ وَيَرَاهُ الْمُسْلِمُونَ، فَإِنْ كَانَ طَاعَةً حَصَلَ مِنْهُ الثَّنَاءُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْعَظِيمُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْصِيَةً حَصَلَ مِنْهُ الذَّمُّ الْعَظِيمُ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ الشَّدِيدُ فِي الْآخِرَةِ. فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ الْوَاحِدَةَ جَامِعَةٌ لِجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ إِلَيْهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَسَائِلَ أُصُولِيَّةٍ.

الْحُكْمُ الْأَوَّلُ أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْمَرْئِيَّاتِ، لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمُعَدَّاةَ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، هِيَ الْإِبْصَارُ، وَالْمُعَدَّاةَ إِلَى مَفْعُولَيْنِ هِيَ العلم، كما تقول رأيت زيدا فقيها، وهاهنا الرُّؤْيَةُ مُعَدَّاةٌ إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ فَتَكُونُ بِمَعْنَى الْإِبْصَارِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مُبْصِرًا لِلْأَشْيَاءِ كَمَا أَنَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ

[مَرْيَمَ: ٤٢] يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مُبْصِرًا وَرَائِيًا لِلْأَشْيَاءِ، وَمِمَّا يُقَوِّي أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهَا هاهنا عَلَى الْعِلْمِ أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ هِيَ الْعِلْمُ لَزِمَ حُصُولُ التَّكْرِيرِ الْخَالِي عَنِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ.

الْحُكْمُ الثَّانِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا أَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ رُؤْيَتُهُ، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَالُوا: قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُعَدَّاةٌ إِلَى مفعول واحد، والقوانين اللغوية شاهدة بأن الرُّؤْيَةَ الْمُعَدَّاةَ إِلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ مَعْنَاهَا الْإِبْصَارُ. فَكَانَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ مَعْنَاهَا الْإِبْصَارُ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى عَدَّى هَذِهِ الرُّؤْيَةَ إِلَى عَمَلِهِمْ وَالْعَمَلُ يَنْقَسِمُ إِلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ، كَالْإِرَادَاتِ وَالْكَرَاهَاتِ وَالْأَنْظَارِ. وَإِلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، كَالْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ. فَوَجَبَ كَوْنُهُ تَعَالَى رَائِيًا لِلْكُلِّ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا مَرْئِيَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الْجُبَّائِيُّ فَإِنَّهُ كَانَ يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى رَائِيًا لِلْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ وَالِاجْتِمَاعَاتِ وَالْاِفْتِرَاقَاتِ، فَلَمَّا قِيلَ لَهُ: إِنْ صَحَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، فَيَلْزَمُكَ كَوْنُهُ تَعَالَى رَائِيًا لِأَعْمَالِ الْقُلُوبِ، فَأَجَابَ عَنْهُ أَنَّهُ تَعَالَى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ إِنَّمَا يَرَوْنَ أَفْعَالَ الْجَوَارِحِ، فَلَمَّا تَقَيَّدَتْ هَذِهِ الرُّؤْيَةُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فِي حَقِّ الْمَعْطُوفِ وَجَبَ تَقْيِيدُهَا بِهَذَا الْقَيْدِ فِي حَقِّ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا بِعِيدٌ لِأَنَّ الْعَطْفَ لَا يُفِيدُ إِلَّا أَصْلَ التَّشْرِيكِ. فَأَمَّا التَّسْوِيَةُ فِي كُلِّ الْأُمُورِ فَغَيْرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>