للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التَّائِبُونَ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ مُبْتَدَأً، وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أَيِ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يُجَاهِدُوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ. لِأَنَّ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَكُونُ الْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ حَاصِلًا لِجَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ: التَّائِبُونَ تَابِعًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ كَانَ الْوَعْدُ بِالْجَنَّةِ حَاصِلًا لِلْمُجَاهِدِينَ. الثَّالِثُ: التَّائِبُونَ مُبْتَدَأٌ أَوْ رُفِعَ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: يُقاتِلُونَ الرَّابِعُ: قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: الْعابِدُونَ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، أَيِ التَّائِبُونَ مِنَ الْكُفْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ هُمُ الجامعون لهذه الخصال. وقرأ أبي وعبد التَّائِبِينَ بِالْيَاءِ إِلَى قَوْلِهِ: وَالْحَافِظِينَ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَرًّا، صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الصِّفَاتِ التِّسْعَةِ.

فَالصِّفَةُ الْأُولَى: قَوْلُهُ: التَّائِبُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: التَّائِبُونَ مِنَ الشِّرْكِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:

التَّائِبُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ. وَقَالَ الْأُصُولِيُّونَ: التَّائِبُونَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ، وَهَذَا أَوْلَى، لِأَنَّ التَّوْبَةَ قَدْ تَكُونُ تَوْبَةً مِنَ الْكُفْرِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ. وَقَوْلُهُ: التَّائِبُونَ صِيغَةُ عُمُومٍ مُحَلَّاةٌ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ، فَتَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَالتَّخْصِيصُ بِالتَّوْبَةِ عَنِ الْكُفْرِ مَحْضُ التَّحَكُّمِ.

وَاعْلَمْ أَنَّا بَالَغْنَا فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ التَّوْبَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [الْبَقَرَةِ: ٣٧] .

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّوْبَةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ حُصُولِ أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: أَوَّلُهَا: احْتِرَاقُ الْقَلْبِ فِي الْحَالِ عَلَى صُدُورِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ عَنْهُ، وَثَانِيهَا: نَدَمُهُ عَلَى مَا مَضَى، وَثَالُثُهَا: عَزْمُهُ عَلَى التَّرْكِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْحَامِلُ لَهُ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ طَلَبَ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى وَعُبُودِيَّتِهِ، فَإِنْ كَانَ غَرَضُهُ مِنْهَا دَفْعَ مَذَمَّةِ النَّاسِ وَتَحْصِيلَ مَدْحِهِمْ أَوْ سَائِرَ الْأَغْرَاضِ، فَهُوَ لَيْسَ مِنَ التَّائِبِينَ.

وَالصِّفَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: الْعابِدُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: الَّذِينَ يَرَوْنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَاجِبَةً عَلَيْهِمْ. وَقَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ هُمُ الَّذِينَ أَتَوْا بِالْعِبَادَةِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِفِعْلٍ مُشْعِرٍ بِتَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَقْصَى الْوُجُوهِ فِي التَّعْظِيمِ، وَلِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنْ يَقُولَ إِنَّ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَالْإِقْرَارَ بِوُجُوبِ طَاعَتِهِ عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِ الْقَلْبِ، وَحُصُولُ الِاسْمِ فِي جَانِبِ الثُّبُوتِ يَكْفِي فِيهِ حُصُولُ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ تِلْكَ الْمَاهِيَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: الْعابِدُونَ هُمُ الَّذِينَ عَبَدُوا اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَوْمٌ أَخَذُوا مِنْ أَبْدَانِهِمْ فِي لَيْلِهِمْ وَنَهَارِهِمْ.

الصِّفَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: الْحامِدُونَ وَهُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِحَقٍّ شُكْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ دِينًا وَدُنْيَا وَيَجْعَلُونَ إِظْهَارَ ذَلِكَ عادة لهم، وقد ذكرنا التَّسْبِيحَ وَالتَّهْلِيلَ وَالتَّحْمِيدَ صِفَةُ الَّذِينَ كَانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ قَبْلَ خَلْقِ الدُّنْيَا، وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ، وَهُوَ صِفَةُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بَعْدَ خَرَابِ الدُّنْيَا. لِأَنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُمْ يَحْمَدُونَ اللَّهَ تَعَالَى، وَهُوَ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: ١٠] وهم المرادون بقوله: الْحامِدُونَ.

الصِّفَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: السَّائِحُونَ وَفِيهِ أَقْوَالٌ:

<<  <  ج: ص:  >  >>