للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِقَوْلِهِ: وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ بِوُجُوبِ الْكَوْنِ فِي مُوَافَقَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي جَمِيعِ الْغَزَوَاتِ وَالْمَشَاهِدِ، أَكَّدَ ذَلِكَ فَنَهَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنِ التَّخَلُّفِ عَنْهُ. فَقَالَ: مَا كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَالْأَعْرَابُ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ مُزَيْنَةُ، وَجُهَيْنَةُ، وَأَشْجَعُ، وَأَسْلَمُ، وَغِفَارٌ، هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: بَلْ هَذَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ كَانُوا حَوْلَ الْمَدِينَةِ فَإِنَّ اللَّفْظَ عَامٌّ، وَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلَا يَطْلُبُوا لِأَنْفُسِهِمِ الْحِفْظَ وَالدَّعَةَ حَالَ مَا يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ فِي الْحَرِّ وَالْمَشَقَّةِ، وَقَوْلُهُ: وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ يُقَالُ: رَغِبْتُ بِنَفْسِي عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَيْ تَوَقَّفْتُ عَنْهُ/ وَتَرَكْتُهُ، وَأَنَا أَرْغَبُ بِفُلَانٍ عَنْ هَذَا أَيْ أَبْخَلُ بِهِ عَلَيْهِ وَلَا أَتْرُكُهُ. وَالْمَعْنَى:

لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَكْرَهُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَرْضَاهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِنَفْسِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وُجُوبُ الْجِهَادِ عَلَى كُلِّ هَؤُلَاءِ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ: الْمَرْضَى وَالضُّعَفَاءُ وَالْعَاجِزُونَ مَخْصُوصُونَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ وَأَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [الْبَقَرَةِ: ٢٨٦] وَأَيْضًا بِقَوْلِهِ:

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: ٦١ الفتح: ١٧] الْآيَةَ وَأَمَّا أَنَّ الْجِهَادَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِعَيْنِهِ، فَقَدْ دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مَخْصُوصًا مِنْ هَذَا الْعُمُومِ وَبَقِيَ مَا وَرَاءَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْعُمُومِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا مَنَعَ مِنَ التَّخَلُّفِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُمْ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَشَقَّةِ إِلَّا وَهُوَ يُوجِبُ الثَّوَابَ الْعَظِيمَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ إِنَّهُ ذَكَرَ أُمُورًا خَمْسَةً: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَهُوَ شِدَّةُ الْعَطَشِ يُقَالُ ظَمِئَ فُلَانٌ إِذَا اشْتَدَّ عَطَشُهُ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: وَلا نَصَبٌ وَمَعْنَاهُ الْإِعْيَاءُ وَالتَّعَبُ. وَثَالِثُهَا:

وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُرِيدُ مَجَاعَةً شَدِيدَةً يَظْهَرُ بِهَا ضُمُورُ الْبَطْنِ وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ خميص البطن.

ورابعها: قوله: وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ أَيْ وَلَا يَضَعُ الْإِنْسَانُ قَدَمَهُ وَلَا يَضَعُ فَرَسُهُ حَافِرَهُ، وَلَا يَضَعُ بِعِيرُهُ خُفَّهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَلِكَ سَبَبًا لِغَيْظِ الْكُفَّارِ قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: يُقَالُ غَاظَهُ وَغَيَّظَهُ وَأَغَاظَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَيْ أَغْضَبَهُ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا أَيْ أَسْرًا وَقَتْلًا وَهَزِيمَةً قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيرًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أَيْ إِلَّا كَانَ ذَلِكَ قُرْبَةً لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَنَقُولُ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مَنْ قَصَدَ طَاعَةَ اللَّهِ كَانَ قِيَامُهُ وَقُعُودُهُ وَمِشْيَتُهُ وَحَرَكَتُهُ وَسُكُونُهُ كُلُّهَا حَسَنَاتٍ مَكْتُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ. وَكَذَا الْقَوْلُ فِي طَرَفِ الْمَعْصِيَةِ فَمَا أَعْظَمَ بَرَكَةُ الطَّاعَةِ وَمَا أَعْظَمَ شُؤْمُ الْمَعْصِيَةِ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا الْحُكْمُ مِنْ خَوَاصِّ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا غَزَا بِنَفْسِهِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ إِلَّا بِعُذْرٍ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هَذَا حِينَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ قَلِيلِينَ فَلَمَّا كَثُرُوا نَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التَّوْبَةِ: ١٢٢] وَقَالَ عَطِيَّةُ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا دَعَاهُمْ وَأَمَرَهُمْ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، لِأَنَّهُ تَتَعَيَّنُ الْإِجَابَةُ وَالطَّاعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ إِذَا أَمَرَ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِنَ الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ إِذَا نُدِبُوا وَعُيِّنُوا لِأَنَّا لَوْ سَوَّغْنَا لِلْمَنْدُوبِ أَنْ يَتَقَاعَدَ لَمْ يَخْتَصَّ بِذَلِكَ بَعْضٌ دُونِ بَعْضٍ وَلَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى تَعْطِيلِ الْجِهَادِ.

ثُمَّ قَالَ: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً يُرِيدُ تَمْرَةً فَمَا فَوْقَهَا وَعَلَاقَةَ سَوْطٍ فَمَا فَوْقَهَا وَلَا يَقْطَعُونَ

<<  <  ج: ص:  >  >>