للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقُولُ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، كَانَ هَذَا تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ بَلَغَ فِي الْوُضُوحِ إِلَى حَيْثُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إِلَى إِقْرَارِ الْخَصْمِ بِهِ، وَأَنَّهُ سَوَاءٌ أَقَرَّ أَوْ أَنْكَرَ، فَالْأَمْرُ مُتَقَرِّرٌ ظَاهِرٌ.

أَمَّا قَوْلُهُ: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فَالْمُرَادُ التَّعَجُّبُ مِنْهُمْ فِي الذَّهَابِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْوَاضِحِ الَّذِي دَعَاهُمُ الْهَوَى وَالتَّقْلِيدُ أَوِ الشُّبْهَةُ الضَّعِيفَةُ إِلَى مُخَالَفَتِهِ، لِأَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ كَوْنِ الْأَوْثَانِ آلِهَةً كَذِبٌ وَإِفْكٌ، وَالِاشْتِغَالُ بِعِبَادَتِهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ هَذِهِ الْعِبَادَةَ يُشْبِهُ الْإِفْكَ.

[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

[في قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ إلى قوله كَيْفَ تَحْكُمُونَ] الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِالْخَلْقِ أَوَّلًا، ثُمَّ بِالْهِدَايَةِ ثَانِيًا، عَادَةٌ مُطَّرِدَةٌ فِي الْقُرْآنِ، فَحَكَى تَعَالَى عَنِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ/ فَقَالَ: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشُّعَرَاءِ: ٧٨] وَعَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] وَأَمَرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الْأَعْلَى: ١- ٣] وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ دَلِيلٌ شَرِيفٌ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَهُ جَسَدٌ وَلَهُ رُوحٌ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ بِأَحْوَالِ الْجَسَدِ هُوَ الْخَلْقُ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الرُّوحِ هُوَ الْهِدَايَةُ فَهَهُنَا أَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ دَلِيلَ الْخَلْقِ فِي الآية الأولى، وهو قوله: أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [النمل: ٦٤] أَتْبَعَهُ بِدَلِيلِ الْهِدَايَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ خَلْقِ الْجَسَدِ حُصُولُ الْهِدَايَةِ لِلرُّوحِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النَّحْلِ: ٧٨] وَهَذَا كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْجَسَدَ، وَإِنَّمَا أَعْطَى الْحَوَاسَّ لِتَكُونَ آلَةً فِي اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ، وَأَيْضًا فَالْأَحْوَالُ الْجَسَدِيَّةُ خَسِيسَةٌ يَرْجِعُ حَاصِلُهَا إِلَى الِالْتِذَاذِ بِذَوْقِ شَيْءٍ مِنَ الطُّعُومِ أَوْ لَمْسِ شَيْءٍ مِنَ الْكَيْفِيَّاتِ الْمَلْمُوسَةِ، أَمَّا الْأَحْوَالُ الرُّوحَانِيَّةُ وَالْمَعَارِفُ الْإِلَهِيَّةُ، فَإِنَّهَا كَمَالَاتٌ بَاقِيَةٌ أَبَدَ الْآبَادِ مَصُونَةٌ عَنِ الْكَوْنِ وَالْفَسَادِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْخَلْقَ تَبَعٌ لِلْهِدَايَةِ، وَالْمَقْصُودَ الْأَشْرَفَ الْأَعْلَى حُصُولُ الْهِدَايَةِ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْعُقُولُ مُضْطَرِبَةٌ وَالْحَقُّ صَعْبٌ، وَالْأَفْكَارُ مُخْتَلِطَةٌ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْغَلَطِ إِلَّا الْأَقَلُّونَ، فَوَجَبَ أَنَّ الْهِدَايَةَ وَإِدْرَاكَ الْحَقِّ لَا يَكُونُ إِلَّا بِإِعَانَةِ اللَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهِدَايَتِهِ وَإِرْشَادِهِ، وَلِصُعُوبَةِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ الْكَلِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ اسْتِمَاعِ الْكَلَامِ الْقَدِيمِ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه: ٢٥] وَكُلُّ الْخَلْقِ يَطْلُبُونَ الْهِدَايَةَ وَيَحْتَرِزُونَ عَنِ الضَّلَالَةِ، مَعَ أَنَّ الْأَكْثَرِينَ وَقَعُوا فِي الضَّلَالَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْهِدَايَةِ وَالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْهِدَايَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنِ الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَةً عَنْ تَحْصِيلِ تِلْكَ الْمَعْرِفَةِ وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا أَشْرَفُ الْمَرَاتِبِ الْبَشَرِيَّةِ وَأَعْلَى السَّعَادَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَدَلَّلْنَا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى. وَأَمَّا الْأَصْنَامُ فَإِنَّهَا جَمَادَاتٌ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْحَقِّ وَلَا فِي الْإِرْشَادِ إِلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>