للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يُظْهِرَ لَهُ آيَاتٍ هَائِلَةً يَعْظُمُ خَوْفُهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهَا، ثُمَّ يَأْتِي بِالْإِيمَانِ عِنْدَهَا. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ خَلْقَ الْإِيمَانِ فِيهِمْ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ إِنْزَالَ هَذِهِ الْآيَاتِ لَا يُفِيدُ وَهُوَ قوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: ٩٦، ٩٧] وَقَالَ أَيْضًا:

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْأَنْعَامِ: ١١١] وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الثَّانِيَ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْإِلْجَاءُ إِلَى الْإِيمَانِ، بَلْ كَانَ ذَلِكَ عِبَارَةً عَنْ خَلْقِ الْإِيمَانِ فِيهِمْ، ثُمَّ يُقَالُ لَكِنَّهُ مَا خَلَقَ الْإِيمَانَ فِيهِمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَا أَرَادَ حُصُولَ الْإِيمَانِ لَهُمْ وَهَذَا عَيْنُ مَذْهَبِنَا.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ قَالَ: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ لَكَ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي أَحَدٍ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ أَنَّ الْقُدْرَةَ الْقَاهِرَةَ وَالْمَشِيئَةَ النَّافِذَةَ لَيْسَتْ إِلَّا لِلْحَقِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ لِلْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ بِقَوْلِهِ: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالُوا وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ أَنَّ الْإِذْنَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِطْلَاقِ فِي الْفِعْلِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ وَصَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَبْلَ حُصُولِ هَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى هَذَا الْإِيمَانِ، ثُمَّ قَالُوا: وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْرِفَةَ اللَّه تَعَالَى وَالِاشْتِغَالَ بِشُكْرِهِ وَالثَّنَاءَ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ الْعَقْلُ عَلَى حُصُولِ نَفْعٍ فِيهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْعَقْلِ، بَيَانُ الْأَوَّلِ أَنَّ ذَلِكَ النَّفْعَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَشْكُورِ أَوْ إِلَى الشَّاكِرِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ/ فِي الشَّاهِدِ الْمَشْكُورُ يَنْتَفِعُ بِالشُّكْرِ فَيَسُرُّهُ الشُّكْرُ وَيَسُوءُهُ الْكُفْرَانُ، فَلَا جَرَمَ كَانَ الشُّكْرُ حَسَنًا وَالْكُفْرَانُ قَبِيحًا، أَمَّا اللَّه سُبْحَانَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسُرُّهُ الشُّكْرُ وَلَا يَسُوءُهُ الْكُفْرَانُ، فَلَا يَنْتَفِعُ بِهَذَا الشُّكْرِ أَصْلًا. وَالثَّانِي:

أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ الشَّاكِرَ يَتْعَبُ فِي الْحَالِ بِذَلِكَ الشُّكْرِ وَيَبْذُلُ الْخِدْمَةَ مَعَ أَنَّ الْمَشْكُورَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْبَتَّةَ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ ذَلِكَ الشُّكْرَ عِلَّةُ الثَّوَابِ، لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى اللَّه تَعَالَى مُحَالٌ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى الْغَيْرِ إِنَّمَا يُعْقَلُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِحَيْثُ لَوْ لَمْ يُعْطِ لَأَوْجَبَ امْتِنَاعُهُ مِنْ إِعْطَاءِ ذَلِكَ الْحَقِّ حُصُولَ نُقْصَانٍ فِي حَقِّهِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهًا عَنِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ لَمْ يُعْقَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ، فَثَبَتَ أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْإِيمَانِ وَبِالشُّكْرِ، لَا يُفِيدُ نَفْعًا بِحَسَبِ الْعَقْلِ الْمَحْضِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْلُ مُوجِبًا لَهُ، فَثَبَتَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ الْقَاطِعِ صِحَّةُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ قَالَ الْقَاضِي: الْمُرَادُ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ إِلَّا بِعِلْمِ اللَّه أَوْ بِتَكْلِيفِهِ أَوْ بِإِقْدَارِهِ عَلَيْهِ.

وَجَوَابُنَا: أَنَّ حَمْلَ الْإِذْنِ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ تَرْكٌ لِلظَّاهِرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلِيلَ الْقَاطِعَ الْعَقْلِيَّ يُقَوِّي قَوْلَنَا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَنَجْعَلُ بِالنُّونِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْيَاءِ كِنَايَةً عَنِ اسْمِ اللَّه تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ خَالِقَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ هُوَ اللَّه تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى:

وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الرِّجْسَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْعَمَلُ الْقَبِيحُ قَالَ تَعَالَى: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الْأَحْزَابِ: ٣٣] وَالْمُرَادُ مِنَ الرجس هاهنا الْعَمَلُ الْقَبِيحُ، سَوَاءٌ كَانَ كُفْرًا أَوْ مَعْصِيَةً، وَبِالتَّطْهِيرِ نَقْلُ الْعَبْدِ مِنْ رِجْسِ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إِلَى طَهَارَةِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّه تَعَالَى فِيمَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْإِيمَانَ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى وَتَخْلِيقِهِ، ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّ الرِّجْسَ لَا يَحْصُلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>