للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اخْتَلَفَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّه تَعَالَى عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ عَلَى قَوْمٍ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ أَوْ كَانَ فِي أَوْلَادِهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ، فَقَالَ قَوْمٌ: إِنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَاحْتَجُّوا بِمَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نُوحٍ: ٢٦، ٢٧] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَسُنَ مِنْهُ تَعَالَى إِنْزَالُ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ عَلَيْهِمْ، لِأَجْلِ أَنَّهُ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ مَنْ يُؤْمِنُ، وَلَا فِي أَوْلَادِهِمْ أَحَدٌ يُؤْمِنُ. قَالَ الْقَاضِي وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَائِنَا: إِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّه تَعَالَى جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ. وَأَمَّا قَوْلُ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُمْ يُضِلُّونَ عِبَادَهُ وَلَا يَلِدُونَ إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَانَ قَوْلًا بِمَجْمُوعِ هَاتَيْنِ الْعِلَّتَيْنِ، وَأَيْضًا فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَحْصُلَا لَمَا جَازَ إِنْزَالُ الْإِهْلَاكِ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لِإِيمَانِهِمْ كَانَ سَأَلَ رَبَّهُ أَنْ يُبْقِيَهُمْ، فَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ مِنْهُمْ أَحَدٌ لِيَزُولَ عَنْ قَلْبِهِ مَا كَانَ قَدْ حَصَلَ/ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى مِنْ بَعْدُ: فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أَيْ لَا تَحْزَنْ مِنْ ذَلِكَ وَلَا تَغْتَمَّ وَلَا تَظُنَّ أَنَّ فِي ذَلِكَ مَذَلَّةً، فَإِنَّ الدِّينَ عَزِيزٌ، وَإِنْ قَلَّ عَدَدُ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِهِ، وَالْبَاطِلَ ذَلِيلٌ وَإِنْ كثر عدد من يقول به.

[[سورة هود (١١) : آية ٣٧]]

وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧)

وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود: ٣٦] يَقْتَضِي تَعْرِيفَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ مُعَذِّبُهُمْ وَمُهْلِكُهُمْ، فَكَانَ يَحْتَمِلُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِوُجُوهِ التَّعْذِيبِ، فَعَرَّفَهُ اللَّه تَعَالَى أَنَّهُ يُعَذِّبُهُمْ بِهَذَا الْجِنْسِ الَّذِي هُوَ الْغَرَقُ، وَلَمَّا كَانَ السَّبِيلُ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ النَّجَاةُ مِنَ الْغَرَقِ تَكْوِينَ السَّفِينَةِ. لا جرم أمر اللَّه تَعَالَى بِإِصْلَاحِ السَّفِينَةِ وَإِعْدَادِهَا، فَأَوْحَى اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ يَصْنَعَهَا عَلَى مِثَالِ جُؤْجُؤِ الطَّائِرِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ أَمْرُ إِيجَابٍ أَوْ أَمْرُ إِبَاحَةٍ.

قُلْنَا: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ أَمْرُ إِيجَابٍ، لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى صَوْنِ رُوحِ نَفْسِهِ وَأَرْوَاحِ غَيْرِهِ عَنِ الْهَلَاكِ إِلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَصَوْنُ النَّفْسِ عَنِ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ الْأَمْرُ أَمْرَ إِيجَابٍ بَلْ كَانَ أَمْرَ إِبَاحَةٍ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يَتَّخِذَ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ دَارًا لِيَسْكُنَهَا وَيُقِيمَ بِهَا.

أَمَّا قَوْلُهُ: بِأَعْيُنِنا فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ للَّه تَعَالَى أَعْيُنٌ كَثِيرَةٌ. وَهَذَا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تعالى: وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [طه: ٣٩] وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَصْنَعَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْفُلْكَ بِتِلْكَ الْأَعْيُنِ، كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَكَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ كَوْنُهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى بِأَعْيُنِنا أَيْ بِعَيْنِ الْمَلَكِ الَّذِي كَانَ يُعَرِّفُهُ كَيْفَ يَتَّخِذُ السَّفِينَةَ، يُقَالُ فُلَانٌ عَيْنٌ عَلَى فُلَانٍ نُصِّبَ عليه ليكون منفحصا عَنْ أَحْوَالِهِ وَلَا تُحَوَّلُ عَنْهُ عَيْنُهُ. الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ عَظِيمَ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ فَإِنَّهُ يَضَعُ عَيْنَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ وَضْعُ الْعَيْنِ عَلَى الشَّيْءِ سَبَبًا لِمُبَالَغَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْعِنَايَةِ جَعَلَ الْعَيْنَ كِنَايَةً/ عَنِ الِاحْتِيَاطِ، فَلِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ بِحِفْظِنَا إِيَّاكَ حِفْظَ مَنْ يَرَاكَ وَيَمْلِكُ دَفْعَ السُّوءِ عَنْكَ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ إِقْدَامَهُ عَلَى عَمَلِ السَّفِينَةِ مَشْرُوطٌ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَمْنَعَهُ أَعْدَاؤُهُ عَنْ ذَلِكَ الْعَمَلِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّهُ كَيْفَ يَنْبَغِي تَأْلِيفُ السَّفِينَةِ وَتَرْكِيبُهَا وَدَفْعُ الشَّرِّ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: وَوَحْيِنا

<<  <  ج: ص:  >  >>