للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا مُعْجِزَةٌ قَاهِرَةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ الْوَاحِدَ إِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ الْعَظِيمِ وَقَالَ لَهُمْ: بَالِغُوا فِي عَدَاوَتِي وَفِي مُوجِبَاتِ إِيذَائِي، وَلَا تُؤَجِّلُونِ فَإِنَّهُ لَا يَقُولُ هَذَا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاثِقًا مِنْ عِنْدِ اللَّه تعالى بأنه يحفظه ويصونه عن كمد الْأَعْدَاءِ.

ثُمَّ قَالَ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: النَّاصِيَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْبَتُ الشَّعْرِ فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ وَيُسَمَّى الشِّعْرُ النَّابِتُ هُنَاكَ نَاصِيَةً بَاسِمِ مَنْبَتِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا وَصَفُوا إِنْسَانًا بِالذِّلَّةِ وَالْخُضُوعِ قَالُوا: مَا نَاصِيَةُ فُلَانٍ إِلَّا بِيَدِ فُلَانٍ، أَيْ أَنَّهُ مُطِيعٌ لَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَخَذْتَ بِنَاصِيَتِهِ فَقَدْ قَهَرْتَهُ، وَكَانُوا إِذَا أَسَرُوا الْأَسِيرَ فَأَرَادُوا إِطْلَاقَهُ وَالْمَنَّ عَلَيْهِ جَزُّوا نَاصِيَتَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِقَهْرِهِ فَخُوطِبُوا فِي الْقُرْآنِ بِمَا يَعْرِفُونَ فَقَوْلُهُ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أَيْ مَا مِنْ حَيَوَانٍ إِلَّا وَهُوَ تَحْتَ قَهْرِهِ وَقُدْرَتِهِ، وَمُنْقَادٌ لِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أَشْعَرَ ذَلِكَ بِقُدْرَةٍ عَالِيَةٍ وَقَهْرٍ عَظِيمٍ فَأَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أَيْ إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِمْ لَكِنَّهُ لَا يَظْلِمُهُمْ وَلَا يَفْعَلُ بِهِمْ إِلَّا مَا هُوَ الْحَقُّ وَالْعَدْلُ وَالصَّوَابُ، قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قَوْلُهُ: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها يَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ وَقَوْلُهُ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ، فَثَبَتَ أَنَّ الدين إنما يتم بالتوحيد والعدل. الثاني: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ سُلْطَانَهُ قَهَرَ جَمِيعَ الْخَلْقِ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مُسْتَتِرٌ، وَلَا يَفُوتُهُ هَارِبٌ، فَذَكَرَ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَهُوَ يَعْنِي بِهِ الطَّرِيقَ الَّذِي لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مَسْلَكٌ إِلَّا عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الْفَجْرِ: ١٤] الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِنَّ رَبِّي يَدُلُّ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، أَيْ يحث، أو يحملكم بالدعاء إليه.

[[سورة هود (١١) : آية ٥٧]]

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٥٧)

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنْ تَوَلَّوْا يَعْنِي فَإِنْ تَتَوَلَّوْا ثُمَّ فِيهِ وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ فَإِنْ تَتَوَلَّوْا لَمْ أُعَاتَبْ عَلَى تَقْصِيرٍ فِي الْإِبْلَاغِ وَكُنْتُمْ مَحْجُوبِينَ كَأَنَّهُ يَقُولُ: أَنْتُمُ الَّذِينَ أَصْرَرْتُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ. الثَّانِي: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ.

ثُمَّ قَالَ: وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ يَعْنِي يَخْلُقُ بَعْدَكُمْ مَنْ هُوَ أَطْوَعُ للَّه مِنْكُمْ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى نُزُولِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا، يَعْنِي أَنَّ إِهْلَاكَكُمْ لَا يُنْقِصُ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: حَفِيظٌ لِأَعْمَالِ الْعِبَادِ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ عَلَيْهَا. الثَّانِي: يَحْفَظُنِي مِنْ شَرِّكُمْ وَمَكْرِكُمْ. الثَّالِثُ: حَفِيظٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يَحْفَظُهُ مِنَ الْهَلَاكِ إِذَا شَاءَ وَيُهْلِكُهُ إذا شاء.

[سورة هود (١١) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]

وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٨) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (٥٩) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (٦٠)

<<  <  ج: ص:  >  >>