للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذَكَرُوا فِي الصَّيْحَةِ وَجْهَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: الْمُرَادُ الصَّاعِقَةُ الثَّانِي:

الصَّيْحَةُ صَيْحَةٌ عَظِيمَةٌ هَائِلَةٌ سَمِعُوهَا فَمَاتُوا أَجْمَعُ مِنْهَا فَأَصْبَحُوا وَهُمْ مَوْتَى جَاثِمِينَ فِي دُورِهِمْ وَمَسَاكِنِهِمْ، وَجُثُومُهُمْ سُقُوطُهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، يُقَالُ إِنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَصِيحَ بِهِمْ تِلْكَ الصَّيْحَةَ الَّتِي مَاتُوا بِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّه تَعَالَى خَلَقَهَا، وَالصِّيَاحُ لَا يَكُونُ إِلَّا الصَّوْتَ الْحَادِثَ فِي حَلْقٍ وَفَمٍ وَكَذَلِكَ الصُّرَاخُ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّه تَعَالَى فَقَدْ خَلَقَهُ فِي حَلْقِ حَيَوَانٍ وَإِنْ كَانَ فِعْلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ حَصَلَ فِي فَمِهِ وَحَلْقِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَوْتَ الرَّعْدِ أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ صَيْحَةٍ وَلَا يُسَمَّى بِذَلِكَ وَلَا بِأَنَّهُ صُرَاخٌ.

فَإِنْ قِيلَ: فَمَا السَّبَبُ فِي كَوْنِ الصَّيْحَةِ مُوجِبَةً لِلْمَوْتِ؟

قُلْنَا: فِيهِ وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ إِنَّمَا تَحْدُثُ عِنْدَ سَبَبٍ قَوِيٍّ يُوجِبُ تَمَوُّجَ الْهَوَاءِ وَذَلِكَ التَّمَوُّجُ الشَّدِيدُ رُبَّمَا يَتَعَدَّى إِلَى صِمَاخِ الْإِنْسَانِ فَيُمَزِّقُ غِشَاءَ الدِّمَاغِ فَيُورِثُ الْمَوْتَ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَيْءٌ مَهِيبٌ فَتَحْدُثُ الْهَيْبَةُ الْعَظِيمَةُ عِنْدَ حُدُوثِهَا وَالْأَعْرَاضُ النَّفْسَانِيَّةُ إِذَا قَوِيَتْ أَوْجَبَتِ الْمَوْتَ الثَّالِثُ: أَنَّ الصَّيْحَةَ الْعَظِيمَةَ إِذَا حَدَثَتْ من السحاب فلا بد وأن يصحبها بَرْقٌ شَدِيدٌ مُحْرِقٌ، وَذَلِكَ هُوَ الصَّاعِقَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ وَالْجُثُومُ هُوَ السُّكُونُ يُقَالُ لِلطَّيْرِ إِذَا بَاتَتْ فِي أَوْكَارِهَا إِنَّهَا جَثَمَتْ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ أَطْلَقُوا هَذَا اللَّفْظَ عَلَى مَا لَا يَتَحَرَّكُ مِنَ الْمَوْتِ فَوَصَفَ اللَّه تَعَالَى هَؤُلَاءِ الْمُهْلَكِينَ بِأَنَّهُمْ سَكَنُوا عِنْدَ الْهَلَاكِ، حَتَّى كَأَنَّهُمْ مَا كَانُوا أَحْيَاءً وَقَوْلُهُ: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَيْ كَأَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدُوا، وَالْمَغْنَى الْمُقَامُ الَّذِي يُقِيمُ الْحَيُّ بِهِ يُقَالُ: غَنِيَ الرَّجُلُ بِمَكَانِ كَذَا إِذَا أَقَامَ بِهِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ قَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ أَلا إِنَّ ثَمُودَ غَيْرَ مُنَوَّنٍ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَقَرَأَ الباقون ثمودا بالتنوين ولثمود كِلَاهُمَا بِالصَّرْفِ، وَالصَّرْفُ لِلذَّهَابِ إِلَى الْحَيِّ، أَوْ إِلَى الْأَبِ الْأَكْبَرِ وَمَنْعُهُ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ بِمَعْنَى القبيلة.

[سورة هود (١١) : الآيات ٦٩ الى ٧١]

وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١)

[في قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى] اعْلَمْ أَنَّ هَذَا هُوَ الْقِصَّةُ الرَّابِعَةُ مِنَ الْقِصَصِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ السورة وهاهنا مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ النَّحْوِيُّونَ: دَخَلَتْ كَلِمَةُ «قد» هاهنا لِأَنَّ السَّامِعَ لِقَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَتَوَقَّعُ قصة بعد قصة، وقد للتوقع، ودخت اللَّامُ فِي «لَقَدْ» لِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ وَلَفْظُ رُسُلُنا جَمْعٌ/ وَأَقَلُّهُ ثَلَاثَةٌ فَهَذَا يُفِيدُ الْقَطْعَ بِحُصُولِ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَى هَذَا الْعَدَدِ فَلَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِهِ إِلَّا بِدَلِيلٍ آخَرَ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِمْ كَانَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَاتُ فَقِيلَ: أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَعَهُ اثْنَا عَشَرَ مَلَكًا عَلَى صُورَةِ الْغِلْمَانِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ وَقَالَ الضَّحَّاكُ كَانُوا تِسْعَةً. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: كَانُوا

<<  <  ج: ص:  >  >>