للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: ٨٠] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَايَةِ الْقَلَقِ وَالْحُزْنِ بِسَبَبِ إِقْدَامِ أُولَئِكَ الْأَوْبَاشِ عَلَى مَا يُوجِبُ الْفَضِيحَةَ فِي حَقِّ أَضْيَافِهِ، فَلَمَّا رَأَتِ الْمَلَائِكَةُ تِلْكَ الْحَالَةَ بَشَّرُوهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْبِشَارَاتِ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ رُسُلُ اللَّه. وَثَانِيهَا: أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَصِلُونَ إِلَى مَا هَمُّوا بِهِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُهْلِكُهُمْ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ تَعَالَى يُنَجِّيهِ مَعَ أَهْلِهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ. وَخَامِسُهَا: أَنَّ رُكْنَكَ شَدِيدٌ وَإِنَّ نَاصِرَكَ هُوَ اللَّه تَعَالَى فَحَصَلَ لَهُ هَذِهِ الْبِشَارَاتُ،

وَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لَهُ إِنَّ قَوْمَكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَافْتَحِ الْبَابَ فَدَخَلُوا فَضَرَبَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِجَنَاحِهِ وُجُوهَهُمْ فَطَمَسَ أَعْيُنَهُمْ فَأَعْمَاهُمْ فَصَارُوا لَا يَعْرِفُونَ الطَّرِيقَ وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَى بُيُوتِهِمْ،

وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [الْقَمَرِ: ٣٧] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ أَيْ بِسُوءٍ وَمَكْرُوهٍ فَإِنَّا نُحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ.

ثُمَّ قَالَ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ فَاسْرِ مَوْصُولَةً وَالْبَاقُونَ بِقَطْعِ الْأَلْفِ وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ سَرَيْتُ بِاللَّيْلِ وَأَسْرَيْتُ وَأَنْشَدَ حَسَّانُ:

أَسْرَتْ إِلَيْكَ وَلَمْ تَكُنْ تَسْرِي

فَجَاءَ بِاللُّغَتَيْنِ فَمَنْ قَرَأَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ١] وَمَنْ وَصَلَ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [الْفَجْرِ: ٤] وَالسُّرَى السَّيْرُ فِي اللَّيْلِ. يُقَالُ: سَرَى يَسْرِي إِذَا سَارَ بِاللَّيْلِ وَأَسْرَى بِفُلَانٍ إِذَا سِيرَ بِهِ بِاللَّيْلِ، وَالْقِطْعُ مِنَ اللَّيْلِ بَعْضُهُ وَهُوَ مِثْلُ الْقِطْعَةِ، يُرِيدُ اخْرُجُوا لَيْلًا لِتَسْبِقُوا نُزُولَ الْعَذَابِ الَّذِي مَوْعِدُهُ الصُّبْحُ. قَالَ نَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ لِعَبْدِ اللَّه بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّه بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ قال هو آخر الليل سحر، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَعْدَ طَائِفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ نِصْفُ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قُطِعَ بِنِصْفَيْنِ.

ثُمَّ قَالَ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ نَهَى مَنْ مَعَهُ عَنِ الِالْتِفَاتِ وَالِالْتِفَاتُ نَظَرُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا وَرَاءَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ لَهُمْ فِي الْبَلْدَةِ أَمْوَالٌ وَأَقْمِشَةٌ وَأَصْدِقَاءُ، فَالْمَلَائِكَةُ أَمَرُوهُمْ بِأَنْ يَخْرُجُوا وَيَتْرُكُوا تِلْكَ الْأَشْيَاءَ وَلَا يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا أَلْبَتَّةَ، وَكَانَ الْمُرَادُ مِنْهُ قَطْعَ الْقَلْبِ عَنْ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ وَقَدْ يُرَادُ مِنْهُ الِانْصِرَافُ أَيْضًا. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا [يُونُسَ: ٧٨] أَيْ لِتَصْرِفَنَا، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ النَّهْيُ عَنِ التَّخَلُّفِ.

ثُمَّ قَالَ: إِلَّا امْرَأَتَكَ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عمر إِلَّا امْرَأَتَكَ بِالرَّفْعِ وَالْبَاقُونَ بِالنَّصْبِ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ:

مَنْ نَصَبَ وَهُوَ الِاخْتِيَارُ فَقَدْ جَعَلَهَا مُسْتَثْنَاةً مِنَ الْأَهْلِ عَلَى مَعْنَى فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ وَالَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّه فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ فَأَسْقَطَ قَوْلَهُ: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَأَمَّا الَّذِينَ رَفَعُوا فَالتَّقْدِيرُ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ تُوجِبُ أَنَّهَا أُمِرَتْ بِالِالْتِفَاتِ لِأَنَّ الْقَائِلَ إِذَا قَالَ لَا يَقُمْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا زَيْدٌ كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا لِزَيْدٍ بِالْقِيَامِ.

وَأَجَابَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ عَنْهُ فَقَالَ: معنى إِلَّا هاهنا الِاسْتِثْنَاءُ الْمُنْقَطِعُ عَلَى مَعْنَى، لَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحد،

<<  <  ج: ص:  >  >>