للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِنَّهُ فَاعِلٌ مُخْتَارٌ وَهُمْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَالَمِ، ثُمَّ هَؤُلَاءِ فَرِيقَانِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ مَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الْعِبَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ أَرْسَلَ الرَّسُولَ، فَالْأَوَّلُونَ هُمُ الْبَرَاهِمَةُ.

وَالْقِسْمَ الثَّانِيَ أَرْبَابُ الشَّرَائِعِ وَالْأَدْيَانِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَالنَّصَارَى وَالْيَهُودُ وَالْمَجُوسُ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ اخْتِلَافَاتٌ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا حَصْرَ، وَالْعُقُولُ مُضْطَرِبَةٌ، وَالْمَطَالِبُ غَامِضَةٌ، وَمُنَازَعَاتُ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ، وَلَمَّا حَسُنَ مِنْ بُقْرَاطَ أَنْ يَقُولَ فِي صِنَاعَةِ الطِّبِّ الْعُمْرُ قَصِيرٌ، وَالصِّنَاعَةُ طَوِيلَةٌ، وَالْقَضَاءُ عُسْرٌ، وَالتَّجْرِبَةُ خَطَرٌ، فَلِأَنْ يَحْسُنَ ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْمَطَالِبِ الْعَالِيَةِ وَالْمَبَاحِثِ الْغَامِضَةِ، كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى.

فَإِنْ قِيلَ: إِنَّكُمْ حَمَلْتُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَدْيَانِ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ، وَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْوَانِ وَالْأَلْسِنَةِ وَالْأَرْزَاقِ وَالْأَعْمَالِ.

قُلْنَا: الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى مَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً، وَمَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فَيَجِبُ حَمْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى مَعْنًى يَصِحُّ أَنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ قَوْلُهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَّا مَا قُلْنَا.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ وَالْإِيمَانَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ زَوَالَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا لِمَنْ خَصَّهُ اللَّه بِرَحْمَتِهِ، وَتِلْكَ الرَّحْمَةُ لَيْسَتْ عِبَارَةً عَنْ إِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ وَالْعَقْلِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، وَإِزَاحَةِ الْعُذْرِ، فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ/ يُقَالَ: تِلْكَ الرَّحْمَةُ هُوَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ فِيهِ تِلْكَ الْهِدَايَةَ وَالْمَعْرِفَةَ. قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ بِأَنْ يَصِيرَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ، فَيَرْحَمُهُ اللَّه بِالثَّوَابِ، وَيَحْتَمِلُ إِلَّا مَنْ رَحِمَهُ اللَّه بِأَلْطَافِهِ، فَصَارَ مُؤْمِنًا بِأَلْطَافِهِ وَتَسْهِيلِهِ، وَهَذَانِ الْجَوَابَانِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ.

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ قَوْلِهِ: وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ يُفِيدُ أَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ إِنَّمَا زَالَ بِسَبَبِ هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الرَّحْمَةُ جَارِيَةً مَجْرَى السَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى زَوَالِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَالثَّوَابُ شَيْءٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ زَوَالِ هَذَا الِاخْتِلَافِ، فَالِاخْتِلَافُ جَارٍ مَجْرَى الْمُسَبَّبِ لَهُ، وَمَجْرَى الْمَعْلُولِ، فَحَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الثَّوَابِ بَعِيدٌ.

وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ حَمْلُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ عَلَى الْأَلْطَافِ فَنَقُولُ: جَمِيعُ الْأَلْطَافِ الَّتِي فَعَلَهَا فِي حَقِّ الْمُؤْمِنِ فَهِيَ مَفْعُولَةٌ أَيْضًا فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَهَذِهِ الرحمة أمر مختص بِهِ الْمُؤْمِنُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا زَائِدًا عَلَى تِلْكَ الْأَلْطَافِ، وَأَيْضًا فَحُصُولُ تِلْكَ الْأَلْطَافِ هَلْ يُوجِبُ رُجْحَانَ وُجُودِ الْإِيمَانِ عَلَى عَدَمِهِ أَوْ لَا يُوجِبُهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجِبْهُ كَانَ وُجُودُ تِلْكَ الْأَلْطَافِ وَعَدَمُهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ سِيَّانِ، فَلَمْ يَكُ لُطْفًا فِيهِ، وَإِنْ أَوْجَبَ الرُّجْحَانَ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي «الْكُتُبِ الْعَقْلِيَّةِ» أَنَّهُ مَتَى حَصَلَ الرُّجْحَانُ فَقَدْ وَجَبَ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُصُولُ الْإِيمَانِ مِنَ اللَّه، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُصُولَ الْإِيمَانِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِخَلْقِ اللَّه، أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَمَيَّزِ الْإِيمَانُ عَنِ الْكُفْرِ، وَالْعِلْمُ عَنِ الْجَهْلِ، امْتَنَعَ الْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْإِيمَانِ وَالْعِلْمِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الِامْتِيَازُ إِذَا عُلِمَ كَوْنُ أَحَدِ هَذَيْنِ الِاعْتِقَادَيْنِ مُطَابِقًا لِلْمُعْتَقَدِ وَكَوْنُ الْآخَرِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ حُصُولُ هَذَا الْعِلْمِ، أَنْ لَوْ عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُعْتَقَدَ فِي نَفْسِهِ كَيْفَ يَكُونُ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنَ الْعَبْدِ الْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ عَالِمًا، وَذَلِكَ

<<  <  ج: ص:  >  >>