للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ السورة بمجيء الحق فيها أن يكون حَالَ سَائِرِ السُّوَرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَكْمَلَ حَالًا مِمَّا ذُكِرَ فِي سَائِرِ السُّوَرِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا قَوْلُهُ: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] لَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ الْحَقُّ وَالْمَوْعِظَةُ وَالذِّكْرَى.

أَمَّا الْحَقُّ: فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْبَرَاهِينِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالنُّبُوَّةِ.

وَأَمَّا الذِّكْرَى: فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى الْإِرْشَادِ إِلَى الْأَعْمَالِ الْبَاقِيَةِ الصَّالِحَةِ.

وَأَمَّا الْمَوْعِظَةُ: فَهِيَ إِشَارَةٌ إِلَى التَّنْفِيرِ مِنَ الدُّنْيَا وَتَقْبِيحِ أَحْوَالِهَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْمُذَكِّرَةُ لِمَا هُنَالِكَ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّوحَ إِنَّمَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْعَالَمِ إِلَّا أَنَّهُ لِاسْتِغْرَاقِهِ فِي مَحَبَّةِ الْجَسَدِ فِي هَذَا الْعَالَمِ نَسِيَ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْعَالَمِ فَالْكَلَامُ الْإِلَهِيُّ يُذَكِّرُهُ أَحْوَالَ ذَلِكَ الْعَالَمِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ صَحَّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الذِّكْرِ عليه.

ثم هاهنا دَقِيقَةٌ أُخْرَى عَجِيبَةٌ: وَهِيَ أَنَّ الْمَعَارِفَ الْإِلَهِيَّةَ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ قَابِلٍ وَمِنْ مُوجِبٍ، وَقَابِلُهَا هُوَ الْقَلْبُ، وَالْقَلْبُ مَا لَمْ يَكُنْ كَامِلَ الِاسْتِعْدَادِ لِقَبُولِ تِلْكَ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّجَلِّيَاتِ الْقُدْسِيَّةِ، لَمْ يَحْصُلِ الِانْتِفَاعُ بِسَمَاعِ الدَّلَائِلِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمَ اللَّه تَعَالَى ذِكْرَ إِصْلَاحِ الْقَلْبِ، وَهُوَ تَثْبِيتُ الْفُؤَادِ، ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ صَلَاحَ حَالِ الْقَابِلِ، أَرْدَفَهُ بِذِكْرِ الْمُوجِبِ، وَهُوَ مَجِيءُ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْحَقِّ وَالْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى، وهذا الترتيب في غاية الشرف والجلالة.

[سورة هود (١١) : الآيات ١٢١ الى ١٢٣]

وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (١٢١) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣)

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَلَغَ الْغَايَةَ فِي الْإِعْذَارِ وَالْإِنْذَارِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، أَتْبَعَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ لِلرَّسُولِ:

وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِمْ هَذِهِ الْبَيَانَاتُ الْبَالِغَةُ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَهَذَا عَيْنُ مَا حَكَاهُ اللَّه تَعَالَى عَنْ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قال لِقَوْمِهِ، وَالْمَعْنَى: افْعَلُوا كُلَّ مَا تَقْدِرُونَ/ عَلَيْهِ فِي حَقِّي مِنَ الشَّرِّ، فَنَحْنُ أَيْضًا عَامِلُونَ. وَقَوْلُهُ: اعْمَلُوا وَإِنْ كَانَتْ صِيغَتُهُ صِيغَةَ الْأَمْرِ، إِلَّا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا التَّهْدِيدُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الْإِسْرَاءِ: ٦٤] وَكَقَوْلِهِ:

فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْفِ: ٢٩] وَانْتَظِرُوا مَا يَعِدُكُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْخِذْلَانِ فَإِنَّا مُنْتَظِرُونَ مَا وَعَدَنَا الرَّحْمَنُ مِنْ أَنْوَاعِ الْغُفْرَانِ وَالْإِحْسَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا: وَانْتَظِرُوا الْهَلَاكَ فَإِنَّا مُنْتَظِرُونَ لَكُمُ الْعَذَابَ. ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ خَاتِمَةً شَرِيفَةً عَالِيَةً جَامِعَةً لِكُلِّ الْمَطَالِبِ الشَّرِيفَةِ الْمُقَدَّسَةِ فَقَالَ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَجْمُوعَ مَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ أُمُورٌ ثَلَاثَةٌ. وَهِيَ: الْمَاضِي وَالْحَاضِرُ وَالْمُسْتَقْبَلُ. أَمَّا الْمَاضِي فَهُوَ أَنْ يَعْرِفَ الْمَوْجُودَ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ، وَذَلِكَ الْمَوْجُودُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي نَقَلَهُ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِلَهُ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>