للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَوَّى اللَّه دَاعِيَةَ ذَلِكَ الْمَلِكِ فِي تَحْصِيلِ الْعِلْمِ بِتَعْبِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أعجز المعبرين الذين حَضَرُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْمَلِكِ عَنْ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَعَمَّاهُ عَلَيْهِمْ لِيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِخَلَاصِ يُوسُفَ مِنْ تِلْكَ الْمِحْنَةِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ مَا نَفَوْا عَنْ أَنْفُسِهِمْ كَوْنَهُمْ عَالِمِينَ بِعِلْمِ التَّعْبِيرِ، بَلْ قَالُوا: إِنَّ عِلْمَ التَّعْبِيرِ عَلَى قِسْمَيْنِ مِنْهُ مَا تَكُونُ الرُّؤْيَا فِيهِ مُنْتَسِقَةً مُنْتَظِمَةً فَيَسْهُلُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُتَخَيَّلَةِ إِلَى الْحَقَائِقِ الْعَقْلِيَّةِ الرُّوحَانِيَّةِ وَمِنْهُ مَا تَكُونُ فِيهِ مُخْتَلِطَةً مُضْطَرِبَةً وَلَا يَكُونُ فِيهَا تَرْتِيبٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْأَضْغَاثِ وَالْقَوْمُ قَالُوا إِنَّ رُؤْيَا الْمَلِكِ مِنْ قِسْمِ الْأَضْغَاثِ ثُمَّ أَخْبَرُوا أَنَّهُمْ غَيْرُ عَالِمِينَ بِتَعْبِيرِ هَذَا الْقِسْمِ وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الرُّؤْيَا مُخْتَلِطَةٌ مِنْ أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَنَحْنُ لَا نَهْتَدِي إِلَيْهَا وَلَا يحيط عقلنا بها وفيها إيهام أن الكامل فِي هَذَا الْعِلْمِ وَالْمُتَبَحِّرَ فِيهِ قَدْ يَهْتَدِي إِلَيْهَا، فَعِنْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ تَذَكَّرَ ذَلِكَ الشَّرَابِيُّ وَاقِعَةَ يُوسُفَ فَإِنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ فِيهِ كَوْنَهُ متبحرا في هذا العلم.

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]

وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦)

اعْلَمْ أَنَّ الْمَلِكَ لَمَّا سَأَلَ الْمَلَأَ عَنِ الرُّؤْيَا وَاعْتَرَفَ الْحَاضِرُونَ بِالْعَجْزِ عَنِ الْجَوَابِ قَالَ الشَّرَابِيُّ إِنَّ فِي الْحَبْسِ رَجُلًا فَاضِلًا صَالِحًا كَثِيرَ الْعِلْمِ كَثِيرَ الطَّاعَةِ قَصَصْتُ أَنَا وَالْخَبَّازُ عَلَيْهِ مَنَامَيْنِ فَذَكَرَ تَأْوِيلَهُمَا فَصَدَقَ فِي الْكُلِّ وَمَا أَخْطَأَ فِي حَرْفٍ فَإِنْ أَذِنْتَ مَضَيْتُ إِلَيْهِ وَجِئْتُكَ بِالْجَوَابِ. فَهَذَا هُوَ قَوْلُهُ: وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما.

وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ فَنَقُولُ: سَيَجِيءُ ادَّكَرَ فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: ٥١] فِي سُورَةِ الْقَمَرِ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَادَّكَرَ بِالدَّالِ هُوَ الْفَصِيحُ عَنِ الْحَسَنِ وَاذَّكَرَ بِالذَّالِ أَيْ تَذَكَّرَ، وَأَمَّا الْأُمَّةُ فَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: بَعْدَ أُمَّةٍ أَيْ بَعْدَ حِينٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحِينَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْأَيَّامِ الْكَثِيرَةِ كَمَا أَنَّ الْأُمَّةَ إِنَّمَا تَحْصُلُ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ فَالْحِينُ كَانَ أُمَّةً مِنَ الْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ وَالثَّانِي: قَرَأَ الْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ بَعْدَ أُمَّةٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَالْإِمَّةُ النِّعْمَةُ قَالَ عَدِيٌّ:

ثُمَّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ وَالْإِمَّةِ وَارَتْهُمْ هُنَاكَ الْقُبُورُ والمعنى: بعد ما أَنْعَمَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاةِ. الثَّالِثُ: قُرِئَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَيْ بَعْدَ نِسْيَانٍ يُقَالُ أَمِهَ يَأْمَهُ أَمَهًا إِذَا نَسِيَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَادَّكَرَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَوْقَاتِ الْكَثِيرَةِ مِنَ الْوَقْتِ الَّذِي أَوْصَاهُ يُوسُفُ عليه السلام بذكره عند الملك، والمراد وَادَّكَرَ بَعْدَ وِجْدَانِ النِّعْمَةِ عِنْدَ ذَلِكَ الْمَلِكِ أَوِ الْمُرَادُ وَادَّكَرَ بَعْدَ النِّسْيَانِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّاسِيَ هُوَ الشَّرَابِيُّ وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ النَّاسِي هُوَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

قُلْنَا: قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: ادَّكَرَ بِمَعْنَى ذَكَرَ وَأَخْبَرَ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ النِّسْيَانِ فَلَعَلَّ السَّاقِيَ إِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ لِلْمَلِكِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إِذْكَارًا لِذَنْبِهِ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ حَبَسَهُ فَيَزْدَادَ الشَّرُّ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: حَصَلَ النِّسْيَانُ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَحَصَلَ أَيْضًا لِذَلِكَ الشَّرَابِيِّ. وأما قوله: فَأَرْسِلُونِ خِطَابٌ إِمَّا لِلْمَلِكِ وَالْجَمْعِ أَوْ لِلْمَلِكِ وَحْدَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ، أَمَّا قَوْلُهُ: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ فَفِيهِ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فَأُرْسِلَ وَأَتَاهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>