للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إِخْوَتِهِ وَظُهُورِ صِدْقِ مَا أَخْبَرَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَالَ مَا أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يُوسُفَ: ١٥] وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ يُوسُفَ عَرَفَهُمْ وَهُمْ مَا عَرَفُوهُ الْبَتَّةَ، أَمَّا أَنَّهُ عَرَفَهُمْ فَلِأَنَّهُ تَعَالَى كَانَ قَدْ أَخْبَرَهُ في قوله: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ بِأَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَيْهِ وَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِ، وَأَيْضًا الرُّؤْيَا الَّتِي رَآهَا كَانَتْ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمْ يَصِلُونَ إِلَيْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ كَانَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُتَرَصِّدًا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ وَصَلَ إِلَى بَابِهِ مِنَ الْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ يَتَفَحَّصُ عَنْهُمْ وَيَتَعَرَّفُ أَحْوَالَهُمْ لِيَعْرِفَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْوَاصِلِينَ هَلْ هُمْ إِخْوَتُهُ أَمْ لَا فَلَمَّا وَصَلَ إِخْوَةُ/ يُوسُفَ إِلَى بَابِ دَارِهِ تَفَحَّصَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ تَفَحُّصًا ظَهَرَ لَهُ أَنَّهُمْ إِخْوَتُهُ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ مَا عَرَفُوهُ فَلِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ حُجَّابَهُ بِأَنْ يُوقِفُوهُمْ مِنَ الْبُعْدِ وَمَا كَانَ يَتَكَلَّمُ مَعَهُمْ إِلَّا بِالْوَاسِطَةِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوهُ لَا سِيَّمَا مَهَابَةُ الْمَلِكِ وَشِدَّةُ الْحَاجَةِ يُوجِبَانِ كَثْرَةَ الْخَوْفِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ مِنَ التَّأَمُّلِ التَّامِّ الَّذِي عِنْدَهُ يَحْصُلُ الْعِرْفَانُ. وَالثَّانِي: هُوَ أَنَّهُمْ حِينَ أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ كَانَ صَغِيرًا. ثُمَّ إِنَّهُمْ رَأَوْهُ بَعْدَ وُفُورِ اللِّحْيَةِ، وَتَغَيُّرِ الزِّيِّ وَالْهَيْئَةِ فَإِنَّهُمْ رَأَوْهُ جَالِسًا عَلَى سَرِيرِهِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ، وَفِي عُنُقِهِ طَوْقٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَالْقَوْمُ أَيْضًا نَسُوا وَاقِعَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِطُولِ الْمُدَّةِ. فَيُقَالُ: إِنَّ مِنْ وَقْتِ مَا أَلْقَوْهُ فِي الْجُبِّ إِلَى هَذَا الْوَقْتِ كَانَ قَدْ مَضَى أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ، لَا سِيَّمَا عِنْدَ اجْتِمَاعِهَا، وَالثَّالِثُ: أَنَّ حُصُولَ الْعِرْفَانِ وَالتَّذْكِيرِ بِخَلْقِ اللَّه تَعَالَى، فَلَعَلَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ ذَلِكَ الْعِرْفَانَ وَالتَّذْكِيرَ فِي قُلُوبِهِمْ تَحْقِيقًا لِمَا أَخْبَرَهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ مُعْجِزَاتِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قَالَ اللَّيْثُ: جَهَّزْتُ الْقَوْمَ تَجْهِيزًا إِذَا تَكَلَّفْتَ لَهُمْ جَهَازِهِمْ لِلسَّفَرِ، وَكَذَلِكَ جَهَازُ الْعَرُوسِ وَالْمَيِّتِ وَهُوَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي وَجْهِهِ. قَالَ: وَسَمِعْتُ أَهْلَ الْبَصْرَةِ يَقُولُونَ:

الْجِهَازُ بِالْكَسْرِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْقُرَّاءُ كُلُّهُمْ عَلَى فَتْحِ الْجِيمِ، وَالْكَسْرُ لُغَةٌ لَيْسَتْ بِجَيِّدَةٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: حَمَّلَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بَعِيرًا وَأَكْرَمَهُمْ أَيْضًا بِالنُّزُولِ وَأَعْطَاهُمْ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ فِي السَّفَرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ: ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ كَلَامٍ سَابِقٍ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الْكَلَامُ سَبَبًا لِسُؤَالِ يُوسُفَ عَنْ حَالِ أَخِيهِمْ، وَذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَحْسَنُهَا إِنَّ عَادَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ الْكُلِّ أَنْ يُعْطِيَهُ حِمْلَ بِعِيرٍ لَا أَزْيَدَ عَلَيْهِ وَلَا أَنْقَصَ، وَإِخْوَةُ يُوسُفَ الَّذِينَ ذَهَبُوا إِلَيْهِ كَانُوا عَشَرَةً، فَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَحْمَالٍ، فَقَالُوا: إِنَّ لَنَا أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا وَأَخًا آخَرَ بَقِيَ مَعَهُ، وَذَكَرُوا أَنَّ أَبَاهُمْ لِأَجْلِ سِنِّهِ وَشِدَّةِ حُزْنِهِ لَمْ يَحْضُرْ، وَأَنَّ أَخَاهُمْ بَقِيَ فِي خِدْمَةِ أَبِيهِ وَلَا بُدَّ لَهُمَا أَيْضًا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ فَجَهَّزَ لَهُمَا أَيْضًا بَعِيرَيْنِ آخَرَيْنِ مِنَ الطَّعَامِ فَلَمَّا ذَكَرُوا ذَلِكَ قَالَ يُوسُفُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُبَّ أَبِيكُمْ لَهُ أَزْيَدُ مِنْ حُبِّهِ لَكُمْ، وَهَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ لِأَنَّكُمْ مَعَ جَمَالِكُمْ وَعَقْلِكُمْ وَأَدَبِكُمْ إِذَا كَانَتْ مَحَبَّةُ أَبِيكُمْ لِذَلِكَ الْأَخِ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّتِهِ لَكُمْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ أُعْجُوبَةٌ فِي الْعَقْلِ، وَفِي الْفَضْلِ وَالْأَدَبِ فَجِيئُونِي بِهِ حَتَّى أَرَاهُ فَهَذَا السَّبَبُ مُحْتَمَلٌ مُنَاسِبٌ.

وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَعْطَاهُمُ الطَّعَامَ قَالَ لَهُمْ: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَحْنُ قَوْمٌ رُعَاةٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ أَصَابَنَا الْجَهْدُ فَجِئْنَا نَمْتَارُ فَقَالَ: لَعَلَّكُمْ جِئْتُمْ عُيُونًا فَقَالُوا مَعَاذَ اللَّه نَحْنُ إِخْوَةٌ بَنُو أَبٍ وَاحِدٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>